يمثل صراع إسرائيل مع إيران أكثر بكثير من مجرد أزمة أخرى في الشرق الأوسط إنه يُشير إلى بزوغ فصل جديد وخطير في التنافسات النووية، من شأنه أن يُعيد تشكيل مخاطر الانتشار العالمي لعقود قادمة.
وتشير الدكتورة فرح جان المحاضرة في العلاقات الدولية بجامعة بنسلفانيا في مقال نشرته بموقع “ذا كونفرزيشن” الأمريكي إلى أن ما بدأ بضربات إسرائيلية على منشآت نووية إيرانية وأهداف أخرى في 13 يونيو الجاري، تحول الآن إلى أول مثال شامل في العالم على ما يمكن تسميته بـ”حرب العتبة” وهو شكل جديد ومرعب من الصراع، حيث تسعى قوة نووية إلى استخدام القوة لمنع خصم على وشك إنتاج أسلحة نووية من القيام بذلك.
وفي ظل استمرار سقوط الصواريخ على كل من طهران وتل أبيب – مع مئات القتلى في إيران و24 قتيلاً على الأقل في إسرائيل – يشهد المجتمع الدولي انهيارًا فوريًا لأطر الردع التقليدية، فعلى عكس التنافسات النووية التقليدية حيث يمتلك كلا الجانبين ترسانات مُعلنة – مثل الهند وباكستان، اللتين تعملان على الرغم من توتراتهما في ظل ردع متبادل- تُؤدي ديناميكية العتبة الجديدة هذه إلى دوامة تصعيد غير مستقرة بطبيعتها حيث تتزايد قناعة إيران بأنها لا تستطيع ردع العدوان الإسرائيلي بدون أسلحة نووية، إلا أن كل خطوة نحو امتلاكها تستدعي ضربات إسرائيلية أكثر عدوانية.
من جانبها، لا تستطيع إسرائيل القضاء نهائيًا على المعرفة النووية الإيرانية بالوسائل العسكرية، بل يمكنها فقط تأخير ذلك بوسائل من شأنها أن تضمن، على ما يبدو، تصميم إيران المستقبلي على امتلاك الرادع النهائي. وفي ظل هذه الديناميكية، لا يمكن لأي من الطرفين التراجع دون قبول نتيجة لا تُطاق: بالنسبة لإسرائيل، إيران أكثر تصميمًا على أن تصبح دولة نووية قادرة على ردع أي عمل إسرائيلي وإنهاء هيمنتها العسكرية الإقليمية؛ وبالنسبة لإيران، خطر تغيير النظام من خلال ضربات إسرائيلية مدمرة. وتمتد عواقب هذا المنطق إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط.
- سابقة الضربة الوقائية
كانت المخاطر بالغة الخطورة، إذ وصف المسؤولون الإيرانيون الهجوم بأنه “إعلان حرب”، وتعهّدوا بإعادة بناء المنشآت النووية المدمرة. في غضون ذلك، حذّرت إسرائيل من أن حملتها ستستمر “لأي عدد من الأيام”. والأخطر من ذلك، إلغاء المحادثات النووية المقررة بين الولايات المتحدة وإيران، حيث وصفت طهران أي حوار من هذا القبيل بأنه “بلا معنى”. وقد يشير هذا إلى أن نافذة الدبلوماسية – التي فُتحت لبضعة أشهر فقط في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية – قد أُغلقت عمدًا.
وعلى نطاق أوسع، تُمثل الضربات الإسرائيلية تطورًا خطيرًا في المعايير الدولية المتعلقة بالحرب الوقائية. فبينما أطلق المسؤولون الإسرائيليون على هذا الأمر اسم “الضربة الاستباقية”، إلا أن الواقع القانوني والاستراتيجي مختلف. فالضربات الاستباقية تستجيب لتهديدات وشيكة أما الضربات الوقائية، على النقيض من ذلك، فتستهدف تهديدات مستقبلية بعيدة عندما تبدو الظروف مواتية.
وبررت إسرائيل تحركها بزعم أن إيران قادرة على تجميع ما يصل إلى 15 قنبلة نووية بسرعة. ومع ذلك، كما حذر مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، مسبقًا، فإن الضربة الإسرائيلية قد تُعزز طموحات إيران النووية بدلًا من ردعها، مما قد يدفعها إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. وقد أعلنت إيران في 16 يونيو الجاري أن برلمانها يُعدّ مشروع قانون من شأنه انسحاب طهران من معاهدة الانتشار النووي لعام 1968.
تستند حسابات إسرائيل في اختيارها توجيه ضربة عسكرية إلى نفس التآكل في الأطر القانونية الدولية التي شرعت الحرب الاستباقية منذ التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. لقد شكلت “حرب أمريكا على الإرهاب” تحديًا جوهريًا لمعايير السيادة من خلال ممارسات مثل ضربات الطائرات بدون طيار والهجمات الاستباقية.
وفي الآونة الأخيرة، أثبتت الضربات الإسرائيلية في قطاع غزة وأماكن أخرى أن انتهاكات القانون الإنساني الدولي لا تستدعي عواقب عملية تُذكر. بالنسبة لإسرائيل، يبدو أن هذه البيئة المتساهلة قد خلقت فرصة ومبررًا لضرب إيران وهو أمر يسعى إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ عقود.
وعلى هذا، فإن تصرفات إسرائيل تُخاطر بتطبيع الهجمات على البنية التحتية النووية، مما قد يُضفي شرعية على إجراءات وقائية مماثلة من قبل الهند أو الصين أو الولايات المتحدة ضد البرامج النووية الناشئة في أماكن أخرى.
- من الضربات إلى الصراع الإقليمي
أشعلت الضربة الإسرائيلية الأولى تصعيدًا لا مفر منه، فجاء رد إيران على شكل موجات أولًا بمئات الطائرات بدون طيار “الدرونز” والصواريخ في 13 يونيو، ثم وابل من القصف المتواصل طوال الأيام التالية. وبحلول صباح 15 يونيو، تبادل الطرفان الضربات على البنية التحتية للطاقة والقواعد العسكرية والمناطق المدنية، دون نهاية فورية في الأفق. كما انضم الحوثيون في اليمن إلى القتال منذ ذلك الحين، بإطلاق صواريخ باليستية على تل أبيب، بينما غاب كل من “حزب الله” اللبناني وحركة “حماس” الفلسطينية والفصائل المسلحة العراقية بشكل ملحوظ، فالجميع تضرر بشكل كبير جراء الضربات الإسرائيلية الأخيرة. ويغير هذا التدهور في ما يسمى بـ”محور المقاومة” حسابات طهران الاستراتيجية بشكل جذري، فبدون وكلاء أقوياء يهددون بالرد، تصبح إيران أكثر عرضة للضربات الإسرائيلية، مما يجعل الأسلحة النووية تبدو الرادع الوحيد الموثوق ضد الهجمات المستقبلية.
ويوضح نمط التصعيد ما يمكن أن يحدث عندما تستخدم حكومة ما العدوان كوسيلة للوقاية. فبعد أن بدأت إسرائيل التصعيد الأخير للأعمال العدائية، تواجه الآن العواقب. إن تعهد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأن المنشآت المدمرة “ستتم إعادة بنائها” يؤكد أن التحرك الإسرائيلي المُصمم لمنع امتلاك القدرة النووية قد يؤدي بدلًا من ذلك إلى سعي إيران لتحقيق ذلك بتصميم متجدد.
- فخ الالتزام
وهذا يُنشئ ما يُطلق عليه الاستراتيجيون “فخ الالتزام” وهي ديناميكية يواجه فيها كلا الجانبين تكاليف متصاعدة دون القدرة على التراجع، حيث تواجه إسرائيل معضلة استراتيجية خاصة بها فقد تُسرّع الضربات في نهاية المطاف التحوّل النووي الإيراني بدلاً من منعه، إلا أن التراجع يعني القبول بإيران نووية.
ويُظهر تعهد نتنياهو بأن الضربات الحالية “لا تُقارن بما سيشعرون به في الأيام المقبلة” مدى سرعة تصاعد الضربات التي تُسوّق على أنها وقائية نحو حرب شاملة.
وبخلاف القوى النووية الراسخة القادرة على التفاوض من مواقع القوة، تواجه دول العتبة، مثل إيران، خيارًا صعبًا: إما أن تظل عرضة للضربات الوقائية وتغيير النظام، أو أن تندفع نحو الحماية التي يوفرها الردع النووي.
وتُقدم كوريا الشمالية أوضح مثال على هذه الديناميكية. فرغم عقود من العقوبات والتهديدات العسكرية، لكن برنامج بيونج يانج النووي جعلها في مأمن من الضربات الوقائية. ويدرك القادة الإيرانيون هذا الدرس جيدًا – والسؤال هو: هل يمكنهم الوصول إلى نفس الحماية قبل التعرض لإجراء وقائي حاسم؟
تفترض نظرية الردع النووي التقليدية وجود جهات فاعلة عقلانية تعمل في ظل ضعف متبادل، لكن “حروب العتبة” تكسر هذه الافتراضات من نواحٍ جوهرية. لا تستطيع إيران ردع الهجمات الإسرائيلية بشكل كامل لأنها تفتقر إلى أسلحة لفعل ذلك، بينما لا تستطيع تل أبيب الاعتماد على الردع لمنع التسلح الإيراني لأن برنامج طهران النووي لا يزال يتقدم.
بعبارة أخرى، تواجه إسرائيل تقلصًا في فرص العمل الوقائي مع اقتراب إيران من التسلح؛ وتواجه إيران حوافز لتسريع برنامجها قبل التعرض لضربات إضافية. كما يُفاقم غياب الوساطة الخارجية الفعالة هذه المخاطر، حيث يكشف رد فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه الديناميكية بوضوح. ففي البداية، عارض العمل العسكري وفضّل الدبلوماسية على “قصف إيران”، ثم غيّر موقفه جذريًا بعد بدء الضربات الإسرائيلية، محذرًا من أن “هناك المزيد في الطريق” وهذا يُظهر مدى سرعة انهيار الجهود الدبلوماسية بمجرد بدء “حروب العتبات”.
- التداعيات العالمية
يكشف الرد الدولي عن مدى تطبيع عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية للعدوان على المنشآت النووية. فبينما دعا القادة الأوروبيون إلى “أقصى درجات ضبط النفس”، لم يُدن أي منهم مبادرة إسرائيل بالهجوم. وبينما أدانت روسيا والصين الهجمات، لكنهما لم تتخذا أي إجراء ملموس. ولم يصدر مجلس الأمن الدولي سوى بيانات تعرب عن “قلق” بشأن “التصعيد”.
يُرسي هذا التطبيع سابقة كارثية، إذ يُهدد نموذج حرب العتبة النووية بتفكيك عقود من الحوكمة النووية القائمة على الردع بدلًا من الاستباق. في الواقع، تُرسي حرب العتبة النووية بين إيران وإسرائيل سوابق خطيرة لمنافسات نووية إقليمية أخرى.
وقد تُحفز الضربات الوقائية الناجحة اتخاذ إجراءات مماثلة في أماكن أخرى، مما يُقوّض الجهود الدبلوماسية لمنع الانتشار.
وختامًا، عندما تُصبح الضربات الوقائية آلية إنفاذ لمعايير منع الانتشار، يبدأ هيكل الحوكمة النووية بأكمله في الانهيار. وبدون هذه الأطر، يواجه العالم مستقبلًا غير مستقر يتسم بدورات من الضربات الوقائية والانتشار النووي المتسارع ـ وهو مستقبل أكثر خطورة كثيرًا من المواجهات التي شهدتها حقبة الحرب الباردة وشكلت الحوكمة النووية.