تعتبر حقوق الإنسان من الموضوعات التي حظيت بأهمية كبيرة خلال الثلاثة عقود الماضية، حيث استمدت تلك الأهمية من كونها المعيار القيمي النهائي لأي سياسة من السياسات على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، كما اكتسبت زخمًا كبيرًا بعدما أصبحت أحد تجليات العولمة وأبرز مرتكزاتها الفكرية، ومعيارًا قيمًا لسياسات الدول في المجالات المختلفة.
وقد مرت مجموعة الحقوق والحريات الأساسية للإنسان بسلسلة من التطورات التاريخية قبل أن تصبح ذات إطار قانوني شامل يعرف بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي يضم مجموعة من الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان بدءًا ببعض نصوص ميثاق الأمم المتحدة التي اعترفت بهذه الحقوق بشكل عام، ثم صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أعطاها الشكل القانوني الواضح والمباشر، وكذلك مجموعة الاتفاقيات الدولية للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والنصوص القانونية الواردة في الاتفاقيات الدولية والإعلانات والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، التي نظمت ما يعرف بالفئة الثالثة من حقوق الإنسان، وهي المتعلقة بحق تقرير المصير والحق في التنمية، وحق الإنسان في بيئة مناسبة.
وعلى الرغم من شمول مفهوم حقوق الإنسان على طائفة واسعة من الحقوق، فإن هناك تركيزًا غربيًا يحصر هذا المفهوم في إطاره السياسي فقط ضمن سياسة غربية مُمنهجة تسعى لاستغلال حقوق الإنسان كورقة للضغط والمساومة والابتزاز بحق أي نظام ترى أنه لا يوافق سياساتها، أو دولة ترى أن صعودها إقليميًا أو دوليًا يشكل تهديدًا أو خطرًا على المصالح الغربية.
استخدام الغرب لورقة حقوق الإنسان
تظهر الممارسات الغربية المتعلقة بحقوق الإنسان تناقضات واضحة تتمحور في ازدواجية التعامل مع المفهوم واجتزائه وتوظيفه سياسيًا لخدمة أهداف معينة، ففي الوقت الذي سعت فيه تلك الدول منذ انتهاء الحرب الباردة نحو تحقيق مصالح جيوسياسية، أصبحت قضية حقوق الإنسان ورقة تستخدمها الدول الكبرى للتدخل في شؤون الدول الأخرى وابتزازها، وتبرز أيضًا تناقضات الحديث الغربي عن حقوق الإنسان في رفضه الاعتذار عن تاريخ الغرب في المجازر وأعمال الإبادة، ونهب ثروات الشعوب، والكيل بمكيالين في مواجهة ذات القضايا الحقوقية، فبينما ينتفض الغرب على مستوى حكوماته ووسائل إعلامه ضد قضية ما في بقعة من العالم، يلزم الصمت عن ذات القضية في منطقة أخرى لا يرى له فيها مصلحة للتدخل، وهو ما يعد دليلًا على كذب الغرب ومتاجرته بقضية حقوق الإنسان، فعلى سبيل المثال لا يطرح الغرب موضوع الحقوق والحريات في الدول الكبرى في النظام الدولي في ضوء تنامي المصالح التجارية والاقتصادية والسياسية على نحو يؤثر في الاقتصادات الغربية بشكل غير مسبوق.
من جهة أخرى، لا يطبق الغرب مفاهيم حقوق الإنسان التي يتشدق بها بحيادية وشفافية حتى على أراضيه، فلائحة خروقات حقوق الإنسان في الغرب على أسس دينية وعرقية طويلة، لكن غاية الأمر أنه تعود أن ينظر لهذا الملف على أنه حق حصري له، وأنه المخول بوضع قواعده وقوانينه وإعطاء الدروس بشأنه للآخرين.
التجاهل الغربي المتعمد للأبعاد المتعددة لحقوق الإنسان
في المقابل، تتجاهل الدول الغربية بشكل واضح الأبعاد الأخرى المتعددة لحقوق الإنسان، وحقيقة أن تلك الحقوق غير قابلة للتجزئة ولا يمكن أن تخضع للانتقاء وذلك لأن هذه الحقوق متشابكة، حيث تعتمد الحقوق المدنية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية والاجتماعية والحق في التنمية على بعضها البعض وتتقدم مجتمعة. فحرية الأفراد لا تتوقف فقط على مدى الحرية التي يتمتعون بها في التعبير والاعتراض، حيث إن الفرد لا يكون حرًا فعليًا دون الغذاء، والتعليم والمسكن اللائق، والعكس صحيح. فالمجتمعات التي يتمتع فيها الأفراد بإمكانية الوصول إلى الضمانات الاجتماعية الأساسية والموارد والفرص الاقتصادية تكون أقل عرضة للانقسام المجتمعي وانتشار التطرف.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنه نظرًا لكون الحق في الحياة، هو الحق الأسمى للإنسان، ويقع على عاتق الدولة حمايته والحفاظ عليه، فإن مكافحة الإرهاب تعتبر حقًا أصيلًا من حقوق الإنسان، الواجب على الدول كفالته لمواطنيها.
نهج شامل لحقوق الإنسان في المملكة
تبنت المملكة مقاربة شاملة للتعامل مع ملف حقوق الإنسان تنطلق من رؤية المملكة 2030 التي خطت خطوات رائدة نحو تحقيق التنمية المستدامة، التي تجعل من الإنسان محورها الأساس، وانعكس بشكل إيجابي على تعزيز وحماية حقوق الإنسان، فالرؤية جاءت لتكون مرتكزًا ومنهجاً يحدد السياسات العامة، والبرامج والمبادرات في إطار محاورها الثلاثة “مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح”، والتي يندرج تحت كل محور منها أهداف عديدة لا تخلو من ارتباط مباشر أو غير مباشر بحقوق الإنسان، وقد بدأت المملكة جني ثمار الإصلاحات الهيكليــة التي نفذتها الرؤية في مجال حقوق الإنسان، عبر اتخاذ العديد من التدابير التي شملت سن وتعديل الكثير من الأنظمة، وفي هذا الإطار جاء إعلان سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- حفظه الله- عن مشروع أربعة أنظمة مهمة وهي مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات، وتشير تلك المشاريع إلى أن المملكة تسير بخطوات ثابتة في السنوات الأخيرة نحو تطوير البيئة التشريعية من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقّق التنمية الشاملة.
بالإضافة إلى ذلك أعطت رؤية المملكة أولوية قصوى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ تضمنت في بنودها النص على اتخاذ الكثير من الإجراءات والتدابير لاحترام هذه الحقوق وحمايتها والوفاء بها، إذ اشتمل برنامج التحول الوطني على مجموعة من المبادرات ذات العلاقة بحقوق الأطفال، والعمل على تحسين جودة الخدمات الصحية بشقيها الوقائي والعلاجي، وتحسين تكامل واستمرارية الرعاية المقدمة عن طريق تطوير الرعاية الصحية الأولية، والارتقاء بجودة الحياة في المدن السعودية، وتمكين المرأة واستثمار طاقاتها، والمساهمة في تحقيق أمن غذائي شامل مستدام، وإيجاد منظومة متكاملة للحماية الأسرية، كما تضمنت الرؤية أيضًا التأكيد على أهمية توفير فرص عمل لائقة للمواطنين، ورفع المستوى المهاري للسعوديين بما يتلاءم مع احتياجات سوق العمل.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الغرب استخدم على مدار العقود الماضية وتحديدًا منذ مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي ملف حقوق الإنسان كورقة للضغط والمساومة، وإجبار الدول على أن تدور في فلك المصالح الغربية وأداء دور وظيفي محدد لخدمة تلك المصالح، فلم تكن القضية أبدًا قضية منطلقة من أبعاد تتعلق بالقيم ولكنها تكتيك يستخدمه الغرب بمعاونة أذرعه من وسائل إعلام ومنظمات حقوقية، دون النظر إلى الخصوصية الثقافية لكل إقليم أو بلد في تعامله مع تلك الحقوق والضوابط ذات الصلة بها.
كما أنه من اللافت أن حقوق الإنسان بمفهومها الشامل لا سيما ما يتعلق بتحقيق التنمية المستدامة وتوفير العيش الكريم والخدمات الصحية والتعليمية وغيرها لا تحظى بقدر الاهتمام الذي تستحقه على سلم أولويات الغرب، علمًا بأن الحديث عن حقوق سياسية وممارسة ناضجة للحياة السياسية أمر لا يستقيم دون وجود مجتمع يتمتع بحقوقه الأصيلة في التعليم والحياة الآمنة المطمئنة التي تكفل القدرة على التعبير عن رأيه، وكذلك تشكيل هذا الرأي بناءً على وعي وثقافة واطلاع.
4 دقائق