اتبعت الصين خلال السنوات القليلة الماضية نهجًا ذا مسارين تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يستند إلى تعزيز علاقات التعاون من خلال صفقات اقتصادية ومشروعات للبنية التحتية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، والابتعاد عن القضايا الأمنية والسياسية، إلا أن جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي في المنطقة نهاية الشهر الماضي، كشفت عن موقف أكثر حزمًا وتطلعات أكبر للصين على صعيد ممارسة دور سياسي في المنطقة.
ويرتبط ذلك الدور بمساع حالية من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على غرار أسلافه – باراك أوباما ودونالد ترامب- لتحول الاهتمام من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لكن من الناحية العملية كان ذلك مستحيلًا بسبب العديد من الملفات في المنطقة التي تشكل أهمية لمصالح واشنطن الحيوية ومن بينها ملف إيران وطموحاتها النووية، لكن إحجام الولايات المتحدة عن الانخراط بشكل أكبر في الشرق الأوسط منح فرصًا لمنافسيها، إذ وجدت روسيا مساحة لإحياء الدور القديم للاتحاد السوفيتي السابق من خلال التدخل في سوريا، بينما تعتقد الصين بأن الولايات المتحدة تشهد انحداراً طويل الأمد لا رجوع فيه، وترى نفسها القوة الصاعدة في العالم في القرن الحادي والعشرين وما بعده، ولا يمكن لقوة بهذا الحجم أن تتجاهل منطقة الشرق الأوسط.
 دوافع التحول في طبيعة الدور الصيني تجاه الشرق الأوسط
تقيم الصين علاقات دبلوماسية مع جميع دول الشرق الأوسط، ورفعت علاقاتها خلال السنوات الماضية مع 13 دولة في المنطقة إلى شراكات استراتيجية.
ووفقًا لمعهد أبحاث الشرق الأوسط في واشنطن، فإن نهج الصين الجديد تجاه منطقة الشرق الأوسط يرجع إلى مجموعة من العوامل تتمثل فيما يلي:
احتياجات الصين من الطاقة ومصالح أمنها القومي وأهدافها للنمو الاقتصادي تتطلب الحفاظ على التدفق المستمر للنفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذا مهم بشكل خاص بالنظر إلى علاقة الصين المتوترة مع الولايات المتحدة التي من المتوقع أن تتصاعد حدتها في السنوات القادمة.
تبني الصين فكرة أن التنمية الاقتصادية هي مصدر رئيسي للاستقرار في المنطقة، وأن الاستقرار يمثل أولوية قصوى بالنسبة لحكومة بكين.
رؤية بكين للتحولات الآخذة في التشكل بشأن علاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، ونظرة دول المنطقة تجاه السياسات الأمريكية وآفاق الدور الصيني المحتمل، ويشمل ذلك الآتي:
ترك التحول الكبير المتمثل في فك الارتباط الأمريكي بالمنطقة والذي حدث في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، واستمر في عهد خلفه الرئيس السابق دونالد ترامب، الكثير من المجال لملئه من قبل لاعبين آخرين بما في ذلك الصين.
حولت الأزمة المالية لعام 2008 تركيز اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو الصين للسعي إلى الاستثمار والتجارة، حيث مرت الولايات المتحدة بركود تجنبته الصين إلى حد كبير.
أدت السياسات الداخلية الأمريكية التمييزية ضد الوافدين من بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تحويل تركيز العديد من المستثمرين إلى وجهات أخرى غير الولايات المتحدة.
قدمت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة الزخم لزيادة المشاركة الاقتصادية الصينية في المنطقة من خلال القروض والاستثمارات والتجارة.
نشاط الرئيس الصيني شي جين بينغ فيما يتعلق بتوسيع بصمة الصين في المنطقة من خلال إطلاق مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، والتي أضيفت لاحقًا إلى دستور الحزب الشيوعي الصيني في عام 2017، كما أجرى شي جولة في المنطقة مرتين خلال عامي 2016 و2018، وكانت الأخيرة هي أول زيارة خارجية له في فترة ولايته الثانية، ورفعت الصين مستوى الشراكة مع السعودية والإمارات ومصر وإيران إلى مستوى استراتيجي شامل.
وقد قوبلت هذه المشاركة الأكثر تفاعلاً بزيارات مماثلة رفيعة المستوى قام بها قادة من المنطقة إلى الصين، حيث زار العديد من قادة الشرق الأوسط بكين أكثر من مرة خلال السنوات الخمس الماضية، بالإضافة إلى ذلك قام العديد من الدول في المنطقة بمواءمة استراتيجيات التنمية المستدامة الخاصة بها مع مبادرة الحزام والطريق في الصين من أجل الوصول بشكل أفضل إلى التمويل لمشاريع الطاقة النظيفة.
 تطلعات وركائز الدور السياسي الصيني
لقد تجلت التطلعات الصينية على صعيد ممارسة أدوار سياسية وأمنية في الشرق الأوسط خلال جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي الأخيرة التي شملت المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والإمارات والبحرين، إضافة إلى سلطنة عمان.
ففي أبوظبي، أعلن عن شراكة مع الإمارات لإنتاج ما يصل إلى 200 مليون جرعة من لقاح “سينوفارم” لمحاربة فيروس كورونا، بينما أعلن في الرياض عن اقتراح أمني إقليمي من خمس نقاط تناول كلا من القضية الفلسطينية والاتفاق النووي الإيراني، وفي طهران وقع اتفاقية تعاون مدتها 25 عامًا تبيع إيران بموجبها النفط للصين مقابل وعد بمئات الملايين من الدولارات في شكل استثمارات صينية.
ووفقًا لصحيفة “تشاينا ديلي” الصينية الصادرة باللغة الإنجليزية، كشف وزير الخارجية الصيني النقاب عن خطة من خمس نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط تشمل الدعوة إلى الاحترام المتبادل، والتمسك بالإنصاف والعدالة، وتحقيق عدم الانتشار النووي، وبناء الأمن الجماعي بشكل مشترك، وتسريع التعاون الإنمائي.
وتتضمن تلك الخطة 3 رسائل أساسية، الأولى تتمثل في دعم الصين لدول المنطقة في مواجهة الضغوط الخارجية، والثانية تتعلق ببذل بكين جهود لحل النزاعات والخلافات الإقليمية التي تسود المنطقة. أما عن الرسالة الثالثة فتتمثل في تأكيد الصين عدم سعيها إلى المكاسب الخاصة أو إنشاء مجال نفوذ، حيث تحترم الصين الخيارات التي تتخذها دول المنطقة وتساهم في التنمية السلمية في الشرق الأوسط.
وتتمثل التوجهات العامة للصين إزاء قضايا المنطقة فيما يلي:
– القضية الفلسطينية: ترحب الصين بإجراء مفاوضات مباشرة بين فلسطين وإسرائيل، وتخطط لدعوة شخصيات من الجانبين للسفر إلى الصين لبدء حوارات لتحريك المفاوضات، كما أن بكين أبدت استعدادًا للدفع من أجل إجراء مراجعة شاملة من قبل مجلس الأمن الدولي للقضية الفلسطينية وإعادة تأكيد حل الدولتين لا سيما وأنها ستتسلم رئاسة مجلس الأمن الشهر المقبل.
– الاتفاق النووي الإيراني: ترى الصين أن على واشنطن اتخاذ خطوات جوهرية لتخفيف العقوبات أحادية الجانب على طهران، بينما ينبغي على إيران في ردها أن تعود لاحترام التزاماتها المتعلقة بالمجال النووي، فيما يقع على عاتق المجتمع الدولي دعم جهود دول المنطقة في إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل.
– الأمن الجماعي في الشرق الأوسط: تقوم مقاربة الصين لذلك الملف المهم على ركائز عدة أولها دعم جهود مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وإطلاق مقترح لاستضافة اجتماع حوار متعدد الأطراف بشأن أمن الخليج، بحيث يمكن للأطراف مناقشة تأمين المنشآت النفطية وأمن ممرات الشحن.
– قضية التنمية: تعزيز الاحترام المتبادل والتعايش السلمي في المنطقة والتعاون المتعلق بالتنمية، مع تركيز الجهود على مجالات مثل الانتعاش الاقتصادي، وإعادة الإعمار في البلدان التي مزقتها الصراعات.
عقبات أمام مساعي بكين للعب دور سياسي نشط
يمكن النظر إلى رغبة الصين في لعب دور سياسي في المنطقة على أنه تحد واضح للولايات المتحدة في مناطق نفوذها التقليدية، وتطبيق لاستراتيجية هجومية بدلاً من الاكتفاء باتباع استراتيجية دفاعية في مواجهة محاولات أمريكية لاختراق مناطق تمثل أهمية استراتيجية كبرى لبكين مثل منطقة بحري الصين الجنوبي، إلا أن السؤال الأهم هنا يتعلق بمدى قدرة الصين على لعب دور مؤثر في منطقة الشرق الأوسط بتعقيداتها وتوازناتها الصعبة، ومدى تقبل الأطراف لهذا الدور الصيني.
ويشير مراقبون ومحللون إلى أن الصين ليست مستعدة ولا تتمتع بالخبرة الكافية في المنطقة للقيام بدور الوساطة في الأمن الإقليمي، فالولايات المتحدة لا تزال تعتبر القوة الخارجية الأكثر نفوذاً في المنطقة العربية، وفي حين أن إيران قد ترغب في رؤية لاعب دولي آخر يتقدم على الساحة الإقليمية، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تفضل أن تظل المحادثات مع الصين حول الموضوعات البراغماتية للغاية مثل دبلوماسية الحزام والطريق واللقاحات، بحسب موقع “المونيتور” الأمريكي.
وقد يكون للتعاون الاستراتيجي في الخليج أهمية بالنسبة لطموحات الصين طويلة المدى أكثر من أي فائدة قصيرة الأجل من وراء إيران.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الطموح الصيني للعب دور أكبر على الصعيد السياسي والأمني والاستراتيجي في الشرق الأوسط سيكون موضع ترحيب بلا شك من جانب الأطراف التي تربطها علاقة متوترة وتجاذبات مع الولايات المتحدة، لكن إمكانية حدوث تحول واضح في مواقف ولهجة الدبلوماسية الصينية تجاه قضايا المنطقة يظل أمرًا غير مرجح، فالمحدد الاقتصادي المتعلق بالمصالح الصينية مع دول المنطقة من جهة والصراعات بين تلك الدول من جهة أخرى ونظرتها للدور الأمريكي الراسخ، سيظل يشكل عائقًا كبيرًا أمام بلورة موقف سياسي صيني واضح المعالم.
5 دقائق