يعد إعلان العُلا الصادر عن القمة الخليجية الـ41 التي احتضنتها المملكة العربية السعودية، نقطة انطلاق جديدة نحو تنقية الأجواء السياسية وطيِّ صفحة الخلافات في الخليج العربي وتعزيز الاستقرار والتلاحُم ووحدة الصف وإعلاء المصلحة المشتركة والمصالح العليا لدول المجلس والدول العربية.
ومن المؤكد أن ذلك الاختراق الكبير الذي تم بعد خلافٍ استمرَّ لنحو 3 أعوام ونصف العام، يدشِّن لمرحلة جديدة من التعاون سيكون لها انعكاسات مهمة على العلاقات السياسية والاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي الست، كما يشكِّل تغيرًا استراتيجيًّا مربكًا للأطراف الإقليمية التي أرهقتها طموحاتها ومشاريعها التوسعية، وكانت تتكسَّب من وراء استمرار الخلافات.
فرصة لدعم جهود التنويع الاقتصادي في دول الخليج العربي
يوفر إعلان العُلا والمصالحة في الخليج فرصة لتحقيق التعاون المطلوب لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية المقبلة، فهو يعيد دول مجلس التعاون الخليجي إلى مسارٍ أكثرَ إيجابية ويبشِّر بمرحلة مقبلة تحمل معها الازدهار.
وهنا تبرز الفوائد الاقتصادية الكبيرة التي يمكن أن يحققها هذا الاتفاق لجميع الأطراف المعنية، في وقتٍ تشتد فيه الحاجة إلى التنويع الاقتصادي في دول الخليج العربية، وفقًا للمجلس الأطلسي.
ويعد الحد من النزاعات لَبِنَةً أساسيةً لجذب الاستثمار لدفع التنويع الاقتصادي الذي تشتد الحاجة إليه في جميع أنحاء الخليج، في ظل التقلبات الحادة التي تشهدها أسواق النفط العالمية على مدى العام الماضي، إذ تضررت السوق بشدة من تبعات جائحة كورونا مما تسبب في وصول الأسعار من مستويات 70 دولارًا في يناير الماضي إلى أقل من نحو 20 دولارًا في أبريل مع تداول بعض خامات النفط للمرة الأولى في النطاقات السالبة.
ولذا يرى مراقبون للشأن الاقتصادي أن تلك الخطوة جاءت في توقيت مثالي لتسهم في دعم الجهود التي تبذلها الحكومات الخليجية من أجل تسريع وتيرة المسيرة التنموية وتنويع القطاع الاقتصادي وهو ما تعززه مخرجات القمة، لا سيما الشق المتعلق بالتكامل بين دول الخليج في المجال الاقتصادي والتنموي.
الحضور الأمريكي يقوِّض الحديث عن تراجُع دور واشنطن في المنطقة
لقد جاءت المصالحة الخليجية بعد جهود متواصلة بذلتها دولة الكويت من أجل لمِّ الشمل وتحقيق وحدة الصف الخليجي والحفاظ على تماسك مجلس التعاون، حيث قاد تلك التحركات أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، وواصل الأمير الحالي الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، السير في ذات الطريق، ورافق تلك الجهود مساعٍ أمريكية متواصلة لرأب الصدع، جسدتها العديد من الجولات والتصريحات للمسؤولين الأمريكيين. ويشكل حضور جاريد كوشنر مستشار وصهر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب للقمة الخليجية في العُلا تتويجًا لرعاية واشنطن للمصالحة.
ويبرهن ذلك الانخراط في ملف المصالحة على أن الدور الأمريكي في المنطقة لم يتراجع بفعل المتغيرات التي شهدها الشرق الأوسط خلال العقد الأخير والتي بدا فيها صعودٌ ملحوظٌ للترتيبات الإقليمية وبروزٌ لدور قوى دولية أخرى مثل روسيا، لا سيما في الأزمة السورية.
وفي هذا الإطار، يرى مارك كاتز، زميل أقدم غير مقيم في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي، أن الرعاية الأمريكية لاتفاق المصالحة تقوِّض الدور المتنامي لموسكو في الوساطة بمنطقة الشرق الأوسط.
الأمر الذي أكده تحليل لشبكة “سي إن بي سي” الإخبارية الأمريكية، عبر الإشارة إلى أن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وقطر هي جزء من أحدث جهود واشنطن للتوسط في الصفقات في الشرق الأوسط، منوهة بأن إدارة ترامب حققت نجاحات دبلوماسية عديدة في الآونة الأخيرة.
تشديد الضغط والعزلة على إيران
وعلى النقيض، تعتبر كل من إيران وتركيا أبرز الخاسرين من المصالحة الخليجية، نظرًا لطموحاتهما الإقليمية، وسعيهما منذ يونيو 2017 للاستثمار في الخلافات الخليجية وتحقيق مكاسب اقتصادية تعوِّض الأزمات الطاحنة والانهيارات المتتالية التي يمر بها اقتصاد البلدين.
كما تُلقِي المصالحة بظلالٍ ثقيلةٍ على إيران، إذ قد تؤثر على إيرادات قطاع الطيران والموانئ الجوية الإيرانية بشكل كبير، وهو قطاع من ضمن عشرات القطاعات التي ستتضرَّر جرَّاء المصالحة الخليجية.
فعلى سبيل المثال، يؤدي فَتْحُ الأجواء أمام الطيران القطري إلى حرمان إيران من رسوم سنوية تقدَّر بنحو 100 مليون دولار تدفعها الدوحة من أجل الطيران عبر مجالها الجوي، وهي الأموال التي تغذِّي الاقتصاد الإيراني المُنْهَك، وتسمح لقادة طهران بتمويل البرامج العسكرية، بحسب تقديرات نقلتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن مصادر أمريكية مسؤولة.
إضافة إلى ذلك، فإن التداعيات المترتبة على بيان العُلا ومخرجات القمة الخليجية ستكون أشدَّ وطأة على طهران، إذ إنها تعمِّق الضغوط الإقليمية والدولية على إيران، فبدا واضحًا من البيان الختامي للقمة وجود إجماع خليجي على إدانة سلوكيات النظام الإيراني وتدخُّله في الشؤون الداخلية لدول المنطقة والبرامج النووية والصاروخية الإيرانية، ودعمه للميليشيات الإرهابية في المنطقة.
ويرى سينا أزودي، زميل غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، أن التقارب الخليجي ووجود مجلس تعاون خليجي موحد لن يكون في صالح إيران، لذلك سيكون بمثابة أخبار سيئة لإيران، التي ترى نفسها بشكل متزايد معزولةً وتحت الضغط في ظل انتهاج الولايات المتحدة لسياسة الضغط الأقصى ضد طهران.
وفي ذات السياق، يذهب بروس ريدل، الخبير في مركز بروكينغز الأمريكي إلى أن المصالحة الخليجية تمثِّل أخبارًا جيدة لإدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، لأنها تُنْهِي حالة الانقسام في الخليج التي استفادت منها طهران، كما أن إنجاز تلك المصالحة قبل تولِّي بايدن مهام منصبه في 20 يناير المقبل يجعل إدارته مقبلة على وضع إقليمي أقل حدة في التوتر، مما يوفر له مساحة حركة أفضل.
وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول بأن المصالحة التي تجسَّدت عبر إعلان العُلا ومخرجات القمة الخليجية، تؤسس لواقعٍ إقليميٍّ جديدٍ يعيد تشكيل خارطة التحالفات والمصالح، ويحدُّ من سخونة الأجواء السياسية ويعيد توجيه الجهد الجماعي للدول الخليجية نحو التعاطي مع مصادر التهديد الرئيسية، وفي مقدمتها خطر النظام الإيراني وسلوكه التخريبي المزعزع للاستقرار في المنطقة.
ويبدو أن “إيران” تدرك جيدًا حجم التداعيات السلبية التي ستلحق بها خلال المرحلة المقبلة، وهو ما انعكس في نبرة خطابها الدبلوماسي في التعقيب على مخرجات القمة والمصالحة الخليجية، في حين أبدت تركيا قدرًا من المرونة يؤشِّر إلى سَعْيِها نحو التكيُّف المرحلي مع التغييرات، الأمر الذي يمكن تلمُّسُه في بيان الخارجية التركية الذي رحَّبت فيه بالمصالحة الخليجية وأن أنقرة أكدت في مناسبات عدة أنها تُولِي اهتمامًا كبيرًا بوحدة وتضامن مجلس التعاون الخليجي، مبديةً استعدادَها لبَذْل الجهود من أجل تعزيز التعاون المؤسسي مع دول المجلس، مع التنويه بأن تركيا شريكة استراتيجية له.
ويبقى القول أيضًا بأن إزالة التوترات والشوائب في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي تساعد في تسهيل استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، وإعادة تركيز جهودها الأمنية والدبلوماسية في ملفات وأماكن أخرى.
كما أن نجاح الوساطة الكويتية يكرِّس للحلول الخليجية للأزمات الخليجية وأن أي خلاف، وإن طال، لا بُدَّ من أنْ تتم تسويته داخل البيت الخليجي، وأن روابط ووشائج الأخوة كفيلة بإذابة أي خلافات أو توترات قد تعكِّر صَفْوَ العلاقات التاريخية التي تربط بين شعوب الخليج العربي.