أضحى الذكاء الاصطناعي أداة رئيسية خلال السنوات الأخيرة في العديد من المجالات والقطاعات، ومن بينها الصحافة والإعلام، الأمر الذي أوجد مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى تآكل دور الصحفيين.
وربما ساعد على تضخيم تلك المخاوف قرار شركة مايكروسوفت التكنولوجية العملاقة في مايو الماضي، بالاستغناء عن أكثر من 50 صحفيا ومحررا يعملون في مواقع Microsoft News وMSN كانوا يتولون عملية تنظيم الأخبار، واختيار المحتوى، واستبدال برنامج ذكاء اصطناعي بهم، يمكنه تحديد المقالات المثيرة للاهتمام.
ونظرًا لأن الأدوات التكنولوجية أصبحت قادرة الآن على القيام بمهام أكثر من أي وقت مضى، تثور تساؤلات مهمة حول ماهية دور الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وما التحديات والاعتبارات الواجب مراعاتها عند إدخاله إلى غرفة الأخبار؟
ما الوضع الحالي لصحافة الذكاء الاصطناعي؟
في عام 2012 توقع كريستيان هاموند، أستاذ علوم الكمبيوتر والمؤسس المشارك لشركة Narrative Science المتخصص في سرد البيانات، أنه في غضون 15 عامًا، سيتم كتابة أكثر من 90% من المقالات الإخبارية بواسطة الكمبيوتر. وفي حين لم يعد يفصل العالم عن هذا الموعد سوى 7 سنوات، ما زالت تلك التوقعات بعيدة عن الواقع ولا تزال هناك حاجة ملحَّة إلى الصحفيين عند كتابة الأخبار.
ووفقًا “لمدونة الذكاء الاصطناعي- Artificial Intelligence Blog”، تمكّن صحفيو الذكاء الاصطناعي من كتابة مقالات لا تتطلب بحثًا مستقلًّا، وذلك من خلال منصات توليد اللغة الطبيعية مثل منصة Wordsmith، والتي تقوم بتحويل البيانات إلى نص، ويساعد ذلك النمط العملاء على إنشاء تقارير الأعمال وملخصات السوق بسرعة.
وتقتصر المقالات المكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي حاليًّا على موضوعات بسيطة نسبيًّا مثل نتائج سوق الأسهم، وإعلانات الاندماج والاستحواذ، ونتائج المباريات الرياضية، حيث يتم إنتاج مقالة سريعة تحتوي على المعلومات الأكثر صلة.
ويعني ذلك أن أي شيء أكثر تعقيدًا من هذا بعيد المنال في الوقت الحالي، وإن كانت بعض نماذج اللغة الطبيعية مثل GPT-3 قد أحدثت ضجة كبيرة لقدرتها على تجميع عدة فقرات من نص باللغة الإنجليزية، ولكن ليس هناك ما يضمن أن المحتوى الذي تنشئه له أي أساس في الواقع.
ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي عاملا مساعدا للصحفيين في الأنماط الصحفية التي يتعذر على الذكاء الاصطناعي التعامل معها، مثل كتابة المقالات الطويلة والتحليلات المتعمقة والصحافة الاستقصائية.
ويعد النسخ الآلي للمقابلات أحد استخدامات الذكاء الاصطناعي ذات الأهمية الكبيرة، حيث يمكن أن توفر على الصحفيين ساعات لا حصر لها من العمل الشاق، ولا يعني ذلك أن نتائج نسخ الذكاء الاصطناعي خالية من العيوب، إلا أنه يمكن بسهولة تصحيح تلك الأخطاء القليلة التي يرتكبها البرنامج بواسطة الصحفي.
وفى هذا الإطار، قام مراسل الأخبار التليفزيونية السابق جيف كوفمان، بتأسيس خدمة Trint لتحويل الكلام إلى نص آليًّا، حيث يمكن للبرنامج تقديم معدلات دقة تتراوح من 95 إلى 99% وهو ما يتوقف على درجة نقاء الصوت، ويستغرق إعداد النص بضع دقائق فقط.
ويستثمر في تلك الخدمة مؤسسات إعلامية وتكنولوجية كبرى مثل وكالة أسوشيتد برس الأمريكية وصندوق الابتكار للأخبار الرقمية لدى جوجل.
وفي ذات السياق، يرى تشارلي بيكيت، أستاذ الإعلام ومدير مشروع الذكاء الاصطناعي للصحافة في كلية لندن للاقتصاد، أن الذكاء الاصطناعي ليس موجودًا ليحل محل الصحفيين، ولكن لمساعدتهم فيما يُعرف باسم “الصحافة المعززة- Augmented Journalism”.
كما يمكن لتقنية الذكاء الاصطناعي أيضًا تحديد الاتجاهات والتطورات المثيرة للاهتمام التي تستحق التحقيق من قِبَل الصحفيين، ففي عام 2018، طرحت مجلة “فوربس” الأمريكية نظامًا جديدًا لإدارة المحتوى يعتمد على الذكاء الاصطناعي يسمى “Bertie”، حيث يوصي بمواضيع للمقالات والعناوين الرئيسية للمشتركين في هذا النظام، بناءً على عملهم السابق.
ويبدو أن التجربة ناجحة حتى الآن، حيث تضاعف عدد الزوار المخلصين (أي أولئك الذين يزورون موقع مجلة فوربس أكثر من مرة في الشهر) في الأشهر التي أعقبت إطلاق نظام “Bertie”.
دور الذكاء الاصطناعي في تنظيم المحتوى الصحفي المقدَّم للجمهور
لا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على الأخبار المكتوبة فحسب، بل إنه يتحكم أيضًا في المقالات التي يراها الأشخاص أيضًا، حيث اتخذت مايكروسوفت قرارًا باستخدام الذكاء الاصطناعي في تقييم الأخبار. ولعل هذه المسألة مستوحاة من خوارزمية ملخصات الأخبار على فيسبوك التي تقترح ما تعتقد أنه المحتوى الأكثر صلة للمستخدمين، بناءً على الصفحات التي يفضلونها وتفاعلاتهم السابقة على النظام الأساسي.
وبالمثل يمكن لتقنية الذكاء الاصطناعي تتبّع المقالات التي يزورها المشتركون على موقع إخباري، والتعرف على سلوكهم وتفضيلاتهم (مثل مقدار الوقت الذي يقضونه في قراءة كل مقالة). وكلما عرف منفذ الأخبار المزيد عن جمهوره، زاد المحتوى الملائم الذي يمكنه عرضه على موقعه أو في رسالة إخبارية أسبوعية ممَّا يوفر تجربة شخصية تساعد على تشجيع تفاعل المستخدم.
ووفقًا لمسح أجرته شركة Digiday للإعلام الرقمي، قال 70% من الناشرين الرقميين إنهم يخصصون المحتوى للزوار. ومن أبرز أمثلة تخصيص المحتوى في الصحافة ما يلي:
– يعرض تطبيق نيويورك تايمز للجوال قسم “For You” على صفحته الرئيسية.
– تستخدم صحيفة بوسطن جلوب منصة بيانات العملاء لجمع المعلومات عن المشتركين، حيث وجدت أن قرّاءها يستجيبون بنسبة 70% بشكل أفضل للرسائل المستهدفة.
– استعانت مجموعةHearst Newspapers بتطبيق ذكي لجوجل عبر سحابة الكلام واللغة الطبيعية “Google Cloud Natural Language API” من أجل تصنيف محتواها الرقمي، ممَّا يساعد على تقسيم المستخدمين بناءً على تفضيلات القراءة لديهم.
الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إدارة المؤسسات الصحفية
إن الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لا تقتصر فقط على العمل الصحفي، بل تمتد لتشمل الجوانب الإدارية والتسويقية في المؤسسات الصحفية، حيث يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي المديرين التنفيذيين في منافذ الأخبار على اتخاذ قرارات بشأن نوع المحتوى الذي سيتم إنتاجه، والمشتركين الذين يجب استهدافهم، والحملات التسويقية التي سيتم تشغيلها، وتحديد تكلفة الإعلانات والاشتراكات.
ومن أبرز استخدامات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال “جدار الدفع الديناميكي- dynamic paywall” لـصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، وفيه يتم عرض كميات مختلفة من المعلومات على مستخدمين مختلفين بناءً على احتمالية شراء اشتراك.
فعلى سبيل المثال، يُنظر إلى المستخدمين الذين بحثوا عن مقالات على موقع “وول ستريت جورنال” على أنهم عملاء محتملون أكثر من المستخدمين الذين عثروا على نفس المقالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونتيجة لذلك يتمكن هؤلاء العملاء المحتملون من رؤية المزيد من المحتوى قبل أن يُطلب منهم الاشتراك.
تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة
ووفقًا لتقرير صحافة “الذكاء الاصطناعي- JournalismAI” الصادر عن كلية لندن للاقتصاد في نوفمبر 2019، والذي شمل 71 مؤسسة إخبارية في 32 دولة، لا تزال هناك صعوبات كبيرة تواجه الشركات الإخبارية في تبنِّي الذكاء الاصطناعي.
وكانت أهم ثلاثة تحديات لإدخال الذكاء الاصطناعي إلى غرفة الأخبار هي: الموارد المالية بنسبة 27%، ثم كل من نقص المعرفة أو المهارات والمقاومة الثقافية بنسبة 24% لكل منهما، وبالإضافة إلى هذه الحواجز المؤسسية، هناك أيضًا سبب وجيه للتساؤل عما إذا كان استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة سيغير قواعد اللعبة، وهنا يقدر فرانشيسكو ماركوني، أستاذ الصحافة بجامعة كولومبيا، أنه سيتم استبدال ما بين 8 إلى 12% فقط من مهام الصحفيين بالآلات في المستقبل.
وتبقى مراعاة المعايير الخاصة بأخلاقيات العمل الصحفي والجوانب المهنية إشكالية كبرى فيما يتعلق بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، لا سيما أن العصر الراهن انتشرت فيه “الأخبار المزيفة” وأضحت مصدر قلق متزايد، ومن مؤشراته أن 41% فقط من الأمريكيين يقولون إنهم يثقون بأن وسائل الإعلام نزيهة ودقيقة، بينما يقول 46% من الأوروبيين إنهم يثقون بصحافتهم المكتوبة، وفقًا لمؤسسة جالوب لاستطلاعات الرأي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك نوعين من الشواغل حول كيفية تطبيق تقنية الذكاء الاصطناعي في الصحافة وهما استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء المحتوى، وكذلك استخدامه لتنظيم المحتوى وعرضه على المستخدم النهائي.
فعلى سبيل المثال، كشف موقع فيسبوك في عام 2014 عن نتائج تجربة مثيرة للجدل مع موجز أخبار المستخدمين، حيث غالبًا ما قام الأشخاص الذين تعرضوا لـ”محتوى عاطفي إيجابي” على المنصة بنشر مشاركات أكثر إيجابية، بينما حدث التأثير العكسي مع الأشخاص الذين شاهدوا المزيد من المحتوى السلبي.
وبالمثل، من المحتمل أن تجد مؤسسات صحفية تروِّج لمقالات تستند فقط إلى تفاعلات المستخدمين في إطار سباق نحو نشر مقالات وأخبار تثير مشاعر قوية بما في ذلك الحزن والغضب، ولتجنّب هذا المصير، تحتاج وسائل الإعلام إلى الحفاظ على الوجود البشري في القيادة حتى عندما تقرر الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في العديد من المهام، وعلى الرغم من أن الآلات يمكنها إنتاج مئات القصص المصورة يوميًّا، فإن المقالات لا تزال تتطلب إشرافًا بشريًّا وتدقيقًا للحقائق قبل نشرها.
ختامًا.. لقد أظهر الذكاء الاصطناعي إمكانية هائلة في التخلص من الكثير من العمل الشاق في مجال الصحافة، لا سيما عملية جمع البيانات للعثور على مقترحات لقصص شيقة، وتفريغ التسجيلات، بل إنه أيضًا بات يلعب دورًا في كتابة نمط محدد وقصير من الأخبار. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعمل الذي يجعل مؤسسة إخبارية مميزة حقًّا كالتقارير المتعمقة والتحليل والتعليق السياسي وأعمدة الرأي سيظل الصحفيون جزءًا أساسيًّا من هذه المعادلة في المستقبل، كما أن الصحفيين يتمتعون بالإلمام بالأبعاد الثقافية والسياسية والمجتمعية وهو أمر لا يتوفر لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي، ولعل ذلك الجانب متطلب أساسي في أداء مهام ووظائف الصحافة ودورها في المجتمع خاصة ما يتعلق بالإسهام في تثقيف وتشكيل الرأي العام وتقديم محتوى يعمل على شرح وتفسير وتحليل الأحداث.