تقارير

التربية في عصر الشاشات الإلكترونية.. مُعْضِلات وحلول

تعد تربية النشء أمانة كبرى ومهمة شاقة في مختلف المجتمعات وعلى مرِّ العصور، لكن التطورات التكنولوجية المتلاحقة وصعود مواقع التواصل الاجتماعي والتوسع في استخدام الهواتف الذكية أدى لإضفاء المزيد من التعقيد ووضع عقبات جديدة أمام تلك المهمة.

وباتت مسألة تحديد المدة الزمنية التي يُسمح فيها للأبناء بمتابعة التلفاز أو تصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية أو استخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة، التي تسمى في أدبيات التربية والعلوم السلوكية بـ”وقت الشاشة”، قضيةً ملحَّةً تنشغل بها كل الأُسَر، نظرًا لتأثيرها في نموِّ الأطفال بدنيًّا وسلوكيًّا، وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى إصدار مبادئ توجيهية العام الماضي حول مقدار الوقت الذي يجب أن يقضيه الأطفال الصغار أمام الشاشات.

«وقت الشاشة» المثالي في ضوء المعايير الصحية الدولية

وجاءت إرشادات منظمة الصحة العالمية حول المدة الزمنية المسموح فيها بتعرض الطفل إلى الشاشات، كالتالي:

عدم تعريض الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عامين للشاشات.

الأطفال من سن 3 إلى 4 سنوات يسمح لهم بـ60  دقيقة فقط في اليوم.

وبحسب المنظمة، فإن الأدلة العلمية تظهر أن تعلق الطفل بالشاشات لفترات طويلة يترتب عليها آثارٌ ضارَّةٌ بالصحة، وقد وضعت المنظمة تلك المبادئ التوجيهية وسط مخاوف لدى الدول الأعضاء بشأن ارتفاع مستويات السِّمنة لدى الأطفال.

كما تتصل الأضرار أيضًا بمجالات التطوُّر المعرفي، والمهارات اللغوية، وحتى المهارات الحركية، ويهدف وضع القيود على وقت الشاشة إلى تعزيز النشاط البدني، والحد من وقت الجلوس وضمان حصول الأطفال أيضًا على قسط كافٍ من النوم ما بين 10 إلى 13 ساعة يوميًّا.

من جانبها، توصي المبادئ التوجيهية الرسمية الصادرة عن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، بـ”وقت شاشة” أقل من ساعة واحدة في اليوم للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنتين و5 سنوات، وبالنسبة للأطفال الأكبر سنًّا، يُكتَفى بوضع حدود على وقت الشاشة من خلال تحديد الأولويات المتصلة بالنوم والنشاط البدني والسلوكيات الصحية الأخرى ذات الصلة بطريقة استخدام الوسائط الإعلامية.

الهواتف الذكية ومواقع التواصل وتحدِّيات التربية في الألفية الثالثة

وفي هذا الإطار، خلصت نتائج دراسة جديدة أعدَّها مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إلى أن 66% من الآباء والأمهات في الولايات المتحدة يرون أن تربية الأبناء حاليًّا أصعب ممَّا كانت عليه قبل نحو 20 عامًا، وأرجعوا ذلك إلى التطوُّر التقني ومن أمثلته ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية.

واستندت الدراسة إلى مسحٍ تم إجراؤه عبر الإنترنت على المستوى الوطني خلال الفترة من 2 إلى 15 مارس الماضي، على عينة تضم 3640 شخصًا لدى كل فرد منهم طفل واحد على الأقل دون سن الـ18 عامًا.

وأعرب الآباء والأمهات الذين لديهم أطفال صغار عن القلق بشأن تأثيرات وقت الشاشة، إذ قال 71% ممَّن لديهم طفل دون سن الـ 12 عامًا إنهم قلقون إلى حدٍّ ما من قضاء أطفالهم الكثير من الوقت أمام الشاشات.

كما ذكر نحو 61% ممَّن لديهم أطفال في سن الـ11 عامًا أو أقل، أنهم تلقَّوْا نصائح أو معلومات من طبيب أو جهة طبية حول وقت الاستخدام المسموح به لأبنائهم، وبجانب ذلك يشعر الآباء والأمهات عمومًا بالقلق من الآثار طويلة المدى لاستخدام الهواتف الذكية على نموِّ الأطفال، حيث يعتقد 71% من الآباء والأمهات أن الاستخدام واسع النطاق للهواتف الذكية من قِبَل الأطفال الصغار قد يؤدي إلى أضرار أكثر من الفوائد.

وأظهرت الدراسة أيضًا أن موقع “يوتيوب-YouTube” يعد المنصة الرئيسية للأطفال الصغار والكبار على حدٍّ سواء. وبينما رأى 97% من الآباء والأمهات الذين يشاهد أطفالهم مقاطع الفيديو على يوتيوب أن الموقع يحافظ على ترفيه أطفالهم، ويعتقد 88% أنه يساعد الأبناء على تعلُّم أشياء جديدة، رأى تيار آخر أن المنصة تعرِّض أطفالهم لثقافات مختلفة، كما أعرب البعض عن القلق بشأن أنواع مقاطع الفيديو التي قد يواجهها أطفالهم وإمكانية تعرُّضِهم لمحتوى غير لائق لا يتناسب مع أعمارهم.

وتطرَّقت الدراسة أيضًا إلى مجموعة من المخاوف التي تساور الآباء والأمهات بشأن استخدام الأطفال للإنترنت وتمثلت فيما يلي:

  • أنْ يصبح الطفل هدفًا للمحتالين عبر الإنترنت.
  • الوصول إلى محتوى جنسي أو عنيف.
  • التعرُّض للتنمُّر أو المضايقة عبر الإنترنت.

وللتغلُّب على تلك المخاوف يلجأ الآباء والأمهات إلى مراقبة الأنشطة الرقمية لأطفالهم الصغار، مع تقييد وقت الشاشة بشكلٍ كبيرٍ، والحرمان من استخدام الهاتف الذكي أو الإنترنت كأسلوب تأديبي، وفحص سجلات المكالمات أو الرسائل النصيَّة على الهاتف الذي يستخدمه الطفل، وتتبُّع موقع الطفل من خلال تطبيقات متخصصة.

كما كشفت دراسة مركز بيو عن صراع آخر يخوضه الآباء والأمهات ولكن مع أنفسهم، فعند سؤالهم عن مقدار الوقت الذي يقضونه في استخدام هواتفهم الذكية، رأى أكثر من النصف أنهم يقضون الكثير من الوقت، بينما قال سبعة من كل عشرة إن هواتفهم تصرفهم أحيانًا عن قضاء الوقت مع أطفالهم.

أمَّا عن الآثار السلبية للإفراط في وقت الشاشة، فيمكن رصدُها في النقاط التالية:

مشكلات سلوكية: من المرجَّح أن يعاني الأطفال في المرحلة الابتدائية، الذين يشاهدون التلفاز أو يستخدمون الكمبيوتر أكثر من ساعتين في اليوم من مشكلات عاطفية واجتماعية وتشتُّت الانتباه.

التعثُّر في الدراسة: الأطفال في المرحلة الابتدائية، الذين يقضون وقتًا طويلًا أمام الشاشات يكون أداؤهم أسوأ في الاختبارات.

السِّمنة: الانخراط في نشاط دون التحرُّك لفترة طويلة، مثل مشاهدة التلفاز وممارسة ألعاب الفيديو، عامل خطر لزيادة الوزن.

عدم انتظام النوم: على الرغم من أن البعض يلجأ لمشاهدة التلفاز أو تصفُّح هواتفهم الذكية للاسترخاء قبل النوم، فإن ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يتداخل الضوء المنبعث من الشاشات مع دورة النوم في الدماغ ويمكن أن يؤدي إلى الأَرَق.

الميل إلى استخدام العنف: فالتعرض للبرامج العنيفة وألعاب الفيديو يمكن أن يقود الأطفال لاستخدام العنف في حل المشكلات وتقليد ما يشاهدونه، وفقًا للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال والمراهقين.

مشاركة الوالدين للأبناء «وقت الشاشة».. وسمات المحتوى النافع

ويشير موقع “ذا كونفيرذيشن” الأمريكي إلى أن دراساتٍ أُجريت على مدى عقود أظهرت أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثلاث سنوات يتعلمون بشكل أفضل من التفاعلات الحية، إذ لا يوجد أمامهم الكثير ليكتسبوه من الشاشات في غياب الوالدين أو الأقران.

كما أن انشغال الوالدين بالشاشات والهواتف الذكية، يجعلهم أقل انتباهًا واستجابة لأطفالهم، حيث تُعطل التفاعلات بينهم، التي تعتبر ذات أهمية بالغة لإكساب الطفل المهارة اللغوية والاجتماعية.

ويوضح الموقع الأمريكي أنه للحصول على تجارب وسائط شاشة صحية وإيجابية وذات جودة، يتعين على الوالدين طرح مجموعة من الأسئلة وهي: ما محتوى الشاشة؟ هل المحتوى مثالي بمعنى أنه ليس معقَّدًا أو سطحيًّا؟ ما مدى تحقيقه لعنصر الانخراط؟ أي الحفاظ على انتباه الطفل وحضّه على المشاركة، وأخيرًا هل المحتوى ذو مغزًى بحيث يستطيع الطفل ربطه بحياته في الواقع؟

ويمكن الاستفادة من وقت الشاشة من خلال توافر السمات التالية:

التفاعل: يمكن للأطفال الصغار بالفعل تكوين علاقات مع شخصيات الشاشة، ممَّا يحسن من عملية تعلُّمِهم.

المشاركة: وجود شخص بالغ بجوار الطفل خلال “وقت الشاشة” يسهم في مساعدة الأطفال على فهم المحتوى.

الحوار: قيام الآباء والأمهات بفتح حوار مع أطفالهم وطرح الأسئلة خلال وقت الشاشة يخلق فرصًا لنقل ما يدور عبر الشاشة إلى العالم المادي.

التوجيه: عبر اختيار الوالدين وسائل الإعلام والمنصات التي تقدم صورة عن سلوكيات مرغوبٍ فيها كي يكتسبها الأطفال.

توصيات للحد من وقت الشاشة وآثاره السلبية على الطفل

قدمت دراسة لمركز كايزر لشؤون الأسرة في الولايات المتحدة، 3 توصيات يمكن من خلالها الحدُّ من وقت الشاشة وآثاره السلبية على الطفل، تمثلت فيما يلي:

تشجيع الوالدين للأنشطة الأخرى، وتوفير الموارد اللازمة مثل كتب للقراءة وألعاب الطاولة وأدوات لممارسة الرياضة.

ممارسة الألعاب مع الأطفال، ومشاركتهم تفاصيل حياتهم فهي خطوة مطلوبة للنجاح في الأبوَّة والأمومة، لذلك على الوالدين المراقبة والاستماع وسؤال الأبناء.

إنشاء «مناطق خالية من التكنولوجيا» في المنزل، بحيث لا يتم السماح فيها باستخدام إلكترونيات مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، ولتكون غرفة الطعام على سبيل المثال، فهي لتناول الوجبات وإجراء محادثات عائلية.

وبالإضافة إلى التوصيات السابقة، يجب أيضًا حظرُ استخدام الأجهزة الرقمية والشاشات في أثناء تناول الوجبات، وخلال السهرات العائلية وداخل السيارات وفي غرف النوم، هذا فضلًا عن تخصيص ليلة أسبوعيًّا أو شهريًّا تخلو تمامًا من وقت الشاشة، فهي خطوة تعطي نتائج إيجابية على مستوى الصحة الجسدية والعاطفية لجميع أفراد الأسرة ولا سيما الأطفال.

زر الذهاب إلى الأعلى