خلال الأعوام القليلة الماضية، أصبحت منطقة شرق المتوسط في ظل الاكتشافات المتتالية لثروات الطاقة، ساحة صراع شديد يُشعله سلوك الدولة التركية تحت قيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي تضرب بالاتفاقيات الدولية والقانون الدولي عرض الحائط، في سبيل إيجاد موطئ قدم لها في تلك المنطقة الاستراتيجية، عبر ممارسات تعكس منطق البلطجة واللجوء إلى استخدام القوة لمحاولة فرض نفسها كأمر واقع.
وارتبطت تلك المسألة بأحلام أردوغان الطائشة نحو إحياء العثمانية في ثوب جديد عصري، ومن محاور ذلك تنفيذ ما تسمي استراتيجية “الوطن الأزرق- Mavi Vatan ” التي وضعها الأميرال التركي السابق إحسان صفا، بهدف زيادة نفوذ تركيا فى بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط، لتصطدم بذلك بالعديد من العقبات أبرزها اليونان وقبرص.
استراتيجية “الوطن الأزرق” التركية.. عنوان لحلم السيطرة البحرية الطائش
تهدف استراتيجية “الوطن الأزرق” -مصطلح ذُكر لأول مرة عام 2006 في مؤتمر عن الأمن البحري في مقر قيادة البحرية التركية- إلى تمكين تركيا من السيطرة والتمركز في البحار الثلاثة المحيطة بها، وهي البحر الأسود وبحر إيجة والبحر المتوسط، وجعلها لاعبًا مؤثرًا إقليمياً ودولياً، وإتاحة مصادر الطاقة لها، والتي تلبِّي احتياجات الاقتصاد والنمو الديمغرافي دون الحاجة للارتباط بدول أخرى.
ويشمل الوطن الأزرق المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القاري والمياه الإقليمية المحيطة بتركيا، التي تتيح حرية استخدام جميع الموارد البحرية الموجودة فيها. وتعادل مساحة “الوطن الأزرق” نصف المساحة البرية لتركيا، حسب قائد الأسطول التركي المتقاعد جيم غردينيز.
ويقع النزاع التركى مع اليونان على ترسيم الحدود البحرية، في جوهر الصراع التركي مع دول شرق المتوسط، وتعود جذور النزاع إلى عام 1936 حين قامت اليونان بتوسيع حدودها البحرية من ثلاثة أميال بحرية إلى ستة أميال من طرف بحر إيجة.
وفي ذلك الوقت، لم يكن لدى الدول الكبرى التكنولوجيا الكافية للبحث واكتشاف الثروات خارج المياه الإقليمية، وهو الذي لم يجعل الأمر مطلبًا للعديد من الدول، ولم يحرك مخاوف تركيا تجاه الاستثمار في مياهها، لكن الحال تغيَّر تمامًا مع الاكتشافات الهائلة لموارد الطاقة في المنطقة وبروز مشروعات استثمارية مشتركة بين اليونان ودول أخرى في المتوسط، وتحديدًا بعد توقيع اليونان اتفاقية “المنطقة الاقتصادية الخالصة” مع قبرص ومصر، التي ترسم الحدود الغربية للمنطقة الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط.
وتعد مسألة تعيين حدود الجرف القاري لبحر إيجة محور نزاع بين تركيا واليونان، العضوين في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لا يزال دون حل، ويتعلق بحقوق الدولتين في الاستغلال الاقتصادي للموارد في قاع بحر إيجة وتحته في منطقة تمتد بين مياهها الإقليمية وأعالي البحار.
خطة تركية سرية لغزو اليونان وإحياء تراث چاقا بيه
وفي 15 يونيو الجاري، كشفت وثائق سرِّية حصل عليها موقع “نورديك مونيتور” السويدي عن إعداد تركيا خطة من أجل غزو اليونان تعود إلى عام 2014، وجاء اكتشاف الوثائق خلال استعراض ملف قضية في العاصمة التركية، عن طريق الصدفة، حيث أغفل المدعي العام سيردار كوشكون، وهو من الموالين لأردوغان، حذف تلك الوثائق من ملف الدعوى قبل إحالتها إلى المحكمة، وقد تم جمع الوثائق السرية من مقر هيئة الأركان العامة خلال تحقيق يتصل بمحاولة الانقلاب العسكري في 15 يوليو 2016.
وفي إطار القضية طلب كوشكون من الجيش الحصول على نسخ من جميع رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة خلال الشهرين السابقين على محاولة الانقلاب حتى مطلع أغسطس 2016 بما في ذلك الرسائل المشفَّرة.
وتتعلق الوثائق، التي عرضها “نورديك مونيتور”، بخطة لغزو لليونان تم تبادلها بين كبار القادة في هيئة الأركان العامة التركية عبر نظام بريد إلكتروني داخلي آمن يستخدمونه للاتصال في ما بينهم، حيث أطلق أردوغان على تلك الخطة اسم “چاقا بيهÇakabey – “، وهو أول قائد لحملة عسكرية تركية في بحر إيجة، وأول مَن أنشأ سلاح البحرية في تاريخ تركيا، حيث أسَّس حوض بناء السفن في إزمير، وبنى أسطولًا من 50 سفينة للخروج في مياه بحر إيجة، وهزم أسطول الإمبراطورية البيزنطية آنذاك.
وهذه الوثائق مؤرَّخة في 13 يونيو 2014، مما يشير إلى احتمال أن تكون الخطة قائمة حتى اليوم مع مزيد من التنقيحات والتعديلات، فلا يوجد أي دليل على تخلِّي تركيا ورئيسها عن أطماعهم في اليونان ومنطقة شرق المتوسط بوجه عام.
وتبدو الوثائق معدَّة لتفصل خطة طوارئ محتمَلة تعتمد على التطورات في سوريا، حيث كان الجيش التركي يعمل على تقييم قدراته والتزامات قواته وفقاً للتوجيهات المختلفة في الدول المجاورة، وأرادت أنقرة الحفاظ على قدراتها الهجومية والردعية على الجبهة الغربية في أثناء نقلها لبعض القوات والمعدات إلى الحدود السورية.
وتؤكد الوثائق ما ذكرته تقارير إعلامية سابقة في ما يتعلق بمخطط لشنِّ عملية عسكرية ضد أرمينيا، كما أدرج المدعي العام كوشكون في ملف القضية وثيقة أخرى لعملية تسمي “ألتاي”، وهو الاسم المخصص للعمل العسكري ضد أرمينيا.
وكانت حكومة أردوغان تصعِّد خطابها العدائي ضد اليونان منذ عام 2013، عندما هزَّتها تحقيقات الفساد الكبرى التي أدانت أردوغان وأفراد عائلته وشركاءه من رجال الأعمال والسياسيين. واستخدم الرئيس التركي بدعم من حلفائه من حزب الحركة القومية، اليونان لتشتيت الانتباه عن المشكلات على الجبهة الداخلية.
اتفاقات ترسيم الحدود البحرية تؤجج الصراع بين تركيا واليونان
وأدت مذكرتا التفاهم البحرية والأمنية بين أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج في نوفمبر 2019 إلى زعزعة الاستقرار في منطقة البحر المتوسط، وتحدد الاتفاقية البحرية الجرف القاري بين تركيا وليبيا والمنطقة الاقتصادية الخالصة، متجاهلة حقيقة جغرافية لا تقبل الشك او الالتفاف ألا وهى جزيرة كريت والتي تظهر بشكل واضح على أي خريطة لتفصل بين تركيا وليبيا، وبالتالي فهي ترجمة واضحة لأطماع أنقرة وتخطٍّ لحدودها البحرية الرسمية.
ولم تمضِ بضعة أشهر حتى وجَّهت اليونان صفعة قوية لتركيا وتحديدًا في 10 يونيو الجاري عبر توقيع أثينا اتفاقية لترسيم للحدود البحرية مع إيطاليا في المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، حيث يضمن الاتفاق حق الجزر اليونانية في أن تكون لديها مناطق بحرية.
وقد رسَّخ الاتفاق اليوناني الإيطالي لفكرة الاتفاقيات القانونية المتوافقة مع القانون الدولى، فبموجبه باتت الاتفاقية الموقَّعة بين أردوغان والسراج محل شك وريبة، فضلًا عن توفيره دعمًا لأثينا من باقي دول جنوب المتوسط والاتحاد الأوروبي لضمان الحقوق الاقتصادية والبحرية لليونان في المنطقة.
وأخيرًا، لقد انطبق على تركيا في عهد أردوغان كل أبعاد مفهوم “الدولة العاصية” وفقًا لقواعد القانون الدولي، فهى دولة لا تفي بالتزاماتها ولا تؤدي واجباتها، إذ إنها لم تحترم أحكام القانون الدولي للبحار في ما يتصل بمذكرة ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، فضلًا عن اعتدائها على حقوق الغير، من خلال تنقيب السفن التركية عن النفط والغاز في شرق المتوسط واستهداف ثروات قبرص.
كما أن المخطط التركى لغزو اليونان يمثل خروجًا عن أحكام ميثاق الأمم المتحدة الذى يحظر استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، ولمواده التي تحض على فض المنازعات الدولية بالوسائل السلمية على وجهٍ لا يجعل السِّلم والأمن والعدل الدولي عُرضة للخطر.
ومن ثم تترتب علي تركيا المسؤولية الدولية، ويحق عليها العقاب، الذي يفرضه القانون الدولي على المخالفين العصاة.