أصبحت وسائل الإعلام حاليًا أكثر قدرة على تقديم محتوى مخصص يتناسب مع اهتمامات واحتياجات الجمهور بفضل تقنيات مثل التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي الذي يمتلك القدرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات، كما أسهم الذكاء الاصطناعي في أتمتة بعض العمليات التحريرية، مما يساعد في تسريع نشر الأخبار وتقديمها بجودة أعلى في المقابل، وقد طرح هذا التحول تساؤلات حول تأثير هذه التقنيات على الوظائف التقليدية في الصحافة، والمصداقية الإعلامية وأخلاقيات استخدام هذه الأدوات.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة الشرق الأوسط للعلوم الإنسانية والثقافية في عددها الصادر في فبراير 2025، دراسة بعنوان ” تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة الإعلام: الفرص والتحديات” من إعداد الدكتور أحمد جابر خيون بكلية علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات في جامعة سومر والباحث زين العابدين علي جريو في جامعة فولغوغراد الحكومية الروسية، حيث سعت الدراسة إلى استكشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة الإعلام، من خلال استكشاف الفرص التي يتيحها هذا المجال في تحسين الكفاءة وجودة المحتوى الإعلامي، وكذلك التحديات التي قد تنشأ نتيجة لتطبيق هذه التقنيات في هذا القطاع.
- مظاهر تأثير الذكاء الاصطناعي على الإعلام الرقمي
استعرضت الدراسة مجموعة من مظاهر تأثير الذكاء الاصطناعي على الإعلام الرقمي، تمثلت في التالي:
- التعامل مع البيانات: وفقا لمات كارلسون، مؤلف كتاب المراسل الآلي، فإن الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة يعني قدرة الخوارزميات على تحويل البيانات إلى نصوص إخبارية سردية في وقت قياسي. وقد أصبحت بعض هذه البيانات تشكل قصصًا إخبارية تركز على الاقتصاد، بعد معالجتها وتهيئتها. لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن تكون مؤسسة بلومبرج الإخبارية من أوائل المؤسسات التي تكيفت مع المحتوى المصاغ آليًا، حيث تمكن برنامجها الخاص من إنتاج آلاف المقالات التي حولت التقارير المالية إلى قصص إخبارية، تمامًا كما يفعل المراسل المتخصص في المال والأعمال.
- كشف الأخبار الزائفة: تلعب أدوات الصحافة الآلية دورًا مهمًا في كشف المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، حيث تقوم بتحليل المحتوى ومقارنته للتحقق من صحته، ومراقبة مصداقية المعلومات المنشورة في مختلف وسائل الإعلام، كما تساهم في إعداد تقارير أكثر دقة وشفافية تستخدم هذه الأدوات على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإكس لمواجهة الأخبار الكاذبة، التي أثرت سلبًا على مصداقية صانعي المحتوى، وأحدثت تبعات اجتماعية وسياسية عالمية واسعة، إذ تبذل هذه المنصات جهودًا كبيرة لمحاربة الشائعات والمعلومات المضللة عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن الحسابات الزائفة وتحديد الأخبار التي تنشر لأغراض ربحية بحتة.
- الترجمة الصحفية: تعد الترجمة الآلية أحد التحولات الكبرى التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في المجال الصحفي، فالمراسلون الأجانب عادة ما يجرون مقابلات بلغة معينة ثم يكتبون تقاريرهم بلغة أخرى، وهو أمر كان يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين، ولكن بفضل الترجمة الفورية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكان الصحفيين إعداد الأخبار بأي لغة يختارونها، ليقوم الذكاء الاصطناعي بترجمتها بسرعة وكفاءة، ورغم أن هذه الأنظمة قد ترتكب أخطاء، فإنها لا تكرر الأخطاء ذاتها، مما يوفر وقتًا ثمينًا ويسهم في تحسين جودة التغطية الصحفية.
- تعزيز الأداء الصحفي: يمكن للأنظمة الذكية تحسين أداء الصحفيين وتعزيز إبداعهم من خلال تحليل البيانات واكتشاف الأنماط الخفية في المعلومات. إذ تستطيع الخوارزميات فرز النصوص وتنظيمها وصياغتها بسرعة فائقة، مما يتيح للصحفيين التركيز على الجوانب الأكثر أهمية في تحقيقاتهم. كما يمكن لهذه الأنظمة رصد الاتجاهات غير العادية ضمن ملايين نقاط البيانات، ما قد يقود إلى اكتشافات صحفية كبرى.
- صناعة محتوى متوافق مع المتلقي: أحدث الذكاء الاصطناعي تحولًا كبيرًا في مجال صناعة المحتوى، حيث أصبح بإمكانه توظيف روبوتات متخصصة في مختلف أقسام التحرير والكتابة الصحفية، تتمثل مهمة هذه الروبوتات في دعم التعاون مع شبكات المعلومات محليًا ودوليًا لجمع وتحليل اهتمامات الجمهور المستهدف.
ويعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات لفهم فئات الجمهور المختلفة، ومن ثم صياغة رسائل إعلامية مخصصة لكل منصة إعلامية، مما يعزز من فاعلية المحتوى وتأثيره. كما تخزن هذه البيانات لاستخدامها مستقبليًا في دعم حملات التأثير، سواء في القضايا السياسية أو الاجتماعية، بما يخدم الجمهور المحلي لكل وسيلة إعلامية.
- تحديات يطرحها الذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلام
فرضت تقنيات الذكاء الاصطناعي العديد من التحديات في صناعة الإعلام، يجب التعامل معها بحذر لضمان استفادة القطاع الإعلامي من هذه التكنولوجيا بشكل آمن وأخلاقي.
- انتشار الأخبار الزائفة: حيث يعد استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء النصوص والصور والفيديوهات أحد العوامل التي قد تستخدم في نشر محتوى مغلوط بسرعة على منصات الإعلام، ما يزيد من صعوبة التحقق من صحة الأخبار. فعلى سبيل المثال قد تستخدم النماذج اللغوية لتوليد مقاطع إخبارية قد تبدو حقيقية لكن تحتوي على معلومات غير دقيقة أو كاذبة مما يؤدي إلى تقويض مصداقية الإعلام.
- التحيز في الخوارزميات: تعتمد الخوارزميات على البيانات التي يتم تدريبها عليها، وإذا كانت هذه البيانات تحتوي على تحيزات تاريخية أو اجتماعية، فإن الخوارزميات ستكرر هذه التحيزات في المحتوى الذي تنتجه. وقد يؤدي ذلك إلى عدم التوازن الإعلامي أو إلى تفضيل وجهات نظر أو مواضيع معينة على حساب أخرى، فعلى سبيل المثال قد يؤدي تحيز الخوارزميات إلى تغطية إعلامية غير شاملة لأحداث أو قضايا معينة، مما يؤثر سلبا على الحيادية الإعلامية.
- فقدان الوظائف الصحفية بسبب الأتمتة: يشكل تحديًا كبيرًا في صناعة الإعلام. ومع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحرير، قد تتقلص الحاجة إلى الصحفيين البشريين في بعض المجالات مثل كتابة التقارير الروتينية أو الأخبار العاجلة. وهذه الأتمتة يمكن أن تؤدي إلى تقليص فرص العمل في الإعلام التقليدي مما يثير قلقًا بشأن التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لهذه التقنية على الصحفيين.
- الخصوصية وحماية البيانات: يعتمد الذكاء الاصطناعي على البيانات الضخمة التي تجمعها منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فهذا يتسبب في قلق حول كيفية استخدام هذه البيانات بشكل آمن دون انتهاك حقوق الخصوصية للأفراد، فجمع البيانات الشخصية حول سلوك الجمهور واهتماماته عبر الإنترنت قد يعرض الأفراد لانتهاكات محتملة للخصوصية إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية هذه البيانات.
- الشفافية والمساءلة: تثير قلقًا كبيرًا في صناعة الإعلام. في حال كانت الخوارزميات غير شفافة أو غير قابلة للفهم، قد يزداد الانعدام في المساءلة بشأن المحتوى الذي يتم نشره أو التعديلات التي تطرأ عليه، فإذا تسببت الخوارزمية في نشر معلومات مغلوطة من هو المسؤول هل يمكن تحميل الأنظمة الذكية أو الشركات الإعلامية المسؤولية؟ هذه الأسئلة لا تزال دون إجابة واضحة.
- توصيات الدراسة:
قدمت الدراسة سلسلة من التوصيات تمثلت فيما يلي:
- استفادة المؤسسات الإعلامية من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة وجودة العمل، لكن مع ضرورة مراعاة الأخلاقيات والمصداقية في استخدام هذه التقنيات.
- وضع قوانين وتشريعات واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، خصوصًا فيما يتعلق بالخصوصية وحماية البيانات لضمان عدم استغلال هذه التقنيات بطريقة قد تضر بالجمهور أو الصحافة.
- تدريب العاملين في المؤسسات الإعلامية على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي مع التركيز على تنمية مهاراتهم الرقمية والتكنولوجية المواكبة التغيرات المستقبلية.
- بالرغم من أهمية الذكاء الاصطناعي، يجب أن تبقى اللمسة الإنسانية جزءًا أساسيًا من العمليات الصحفية، وأن يتم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للصحفيين بدلًا من استبدالهم بشكل كامل.
- التأكد من أن الخوارزميات المستخدمة في الإعلام خالية من التحيزات وتستند إلى معايير أخلاقية لضمان تقديم محتوى متوازن وموضوعي.
- ضرورة أن تكون المؤسسات الإعلامية شفافة فيما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار والمحتوى، وذلك لتعزيز الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الصحفيين في المستقبل القريب سيكونون بحاجة إلى مهارات في تصميم الخوارزميات وتحديثها وتعديلها، فضلا عن التحقق من صحتها وتصحيحها والإشراف عليها، كما ستزداد الحاجة إلى توظيف المبرمجين ومهندسي الحاسوب لضمان التطوير المستمر للأنظمة الصحفية وحماية المؤسسات الإعلامية من الاختراقات، كما يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء قوالب متعددة لمعالجة الخبر من زوايا مختلفة مثل كتابة تغريدات وعناوين جذابة، وتلخيص الأخبار، وتقديم نبذة عن الشخصيات المرتبطة بالحدث.