ترجمات

هل تعيد الحرب في أوكرانيا رسم خريطة السياسة العالمية؟

لطالما كانت الحروب تشكل العالم، فبالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية المباشرة، تغير الحروب مصير المجتمعات والدول والقادة، وتنشئ مسارات جديدة للوصول إلى الموارد وتحدد نطاقات النفوذ والتأثير، لذلك تلعب دورًا كبيرًا في إعادة رسم خريطة السياسة العالمية.

وفي ذكرى مرور عام على الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير 2022، يبدو جليًا أن تلك الحرب تشتمل على كل المخاطر السالف ذكرها آنفًا، ففي ظل خوض أوكرانيا معركة وجودية من أجل بقائها، وإصرار القيادة الروسية على مواصلة القتال محملة الغرب مسؤولية الحرب وتصاعد وتيرة الصراع، وهو ما ظهر واضحًا في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية الفيدرالية الروسية في 21 فبراير الحالي، حين قال إن
الغرب أخرج المارد من القمم، يبدو أنه لا يوجد لدى أي من طرفي هذه الحرب أي حافز لوقفها على الأقل في المدى المنظور.

  • عام حاسم في مسار الحرب

لكن ما سيحدث في أوكرانيا خلال هذا العام سيكون حاسمًا، حيث سيكشف ما إذا كان النصر لأي من الطرفين ممكنًا، أو ما إذا كان تجميد الصراع هو الأكثر احتمالية. وسيختبر تصميم جميع الأطراف الرئيسية ومؤيديهم بشأن ثلاث قضايا وهي قدرة أوكرانيا على صد الهجمات الروسية واستعادة الأراضي، ومدى احتفاظ روسيا بتماسك الجبهة الداخلية، وكذلك نوايا الصين بشأن تزويد موسكو بالأسلحة.

ووفقًا لموقع “ذا كونفرزيشن” العالمي، سيكشف هذا العام أيضًا مدى مصداقية تصميم الغرب على دعم كييف، وهل سيتحرك أكثر نحو تزويد أوكرانيا بكل الوسائل والأدوات الضرورية للحرب، أم سيعود إلى تقطير المساعدات، أم سيستسلم للامبالاة والتعب من الحرب؟

في الوقت الحالي، لا تزال أوكرانيا صامدة رغم تحقيق القوات الروسية مؤخرًا بعض الزخم في جنوب البلاد، لكن كييف ستواجه تحديين رئيسيين في الأشهر المقبلة، يتمثل الأول في استيعاب الهجمات الروسية بالتزامن مع شنها هجمات مضادة، وهو ما سيتطلب دروعًا ثقيلة غربية، وقدرات هجومية بعيدة المدى وربما قوة جوية.

أما التحدي الثاني فيتعلق بحاجة أوكرانيا إلى مساعدة دولية متواصلة لضمان عدم انهيار نظامها الاجتماعي نتيجة للانهيار الاقتصادي، ولتكون قادرة على تخفيف المزيد من الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية الحيوية.

  • تحديات تواجه روسيا

وعلى الصعيد الروسي، تتمثل التحديات في تحقيق انتصارات ميدانية سريعة، لا سيما في ظل التعثر الأخير للهجوم الروسي على بلدة فاهليدار جنوب شرق أوكرانيا، والذي يراه الكثيرون على أنه مقدمة لما يسمى بـ”هجوم الربيع”، فضلًا عن وجود تناحر داخلي مرير بين المؤسسة العسكرية الروسية ومجموعة فاغنر شبه العسكرية وصل إلى مرحلة الغليان، لدرجة اتهام زعيم مجموعة “فاغنر” يفجيني بريجوجين قيادة الجيش الروسي بـ”الخيانة” والسعي لتدمير قواته.

فبحسب تسجيل صوتي بُث على قناة مكتبه بمنصة “تليجرام”، قال بريجوجين فيه إن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف يصدران أوامر بعدم تسليم أسلحة للمجموعة، وأيضًا عدم مساعدتها في النقل الجوي، مؤكدا أن هناك حملة ضد قواته ومحاولة لتدميرها. ومما لا شك فيه، فإن وصول الخلافات والتناحر إلى تلك الدرجة يفتح مجالاً لتساؤلات بشأن القبضة القوية لبوتين.

ويرى مراقبون أنه في حال وجود متاعب أكبر داخل روسيا نتيجة ضغوط الحرب المتمثلة في تكثيف عمليات تجنيد المقاتلين وتزايد تأثير العقوبات الغربية مع استعداد الاتحاد الأوروبي لفرض الحزمة العاشرة من العقوبات على موسكو، ستبدو جولة جديدة من سياسة حافة الهاوية جذابة بشكل متزايد للقيادة الروسية، وهذا بدوره يزيد من مخاطر تصعيد الصراع.

  • استمرار تحول مركز ثقل “الناتو” شرقًا

من المرجح أن يستمر مركز ثقل الناتو في التحول شرقًا، حيث برزت كل من بولندا وإستونيا باعتبارهما مناصرين أقوياء لأوكرانيا، وأظهرا فاعلية بشكل خاص في دفع الدول الأوروبية الأكثر تحفظًا- بما في ذلك ألمانيا وفرنسا-، نحو موقف أشد حزمًا تجاه موسكو وأكثر دعمًا عسكريًا لكييف.

وكانت فنلندا والسويد، الطامحتان في عضوية حلف “الناتو”، منشغلتين أيضًا بملف التسليح، حيث زادت الدولتان نفقاتهما الدفاعية لعام 2022 بنسبة تتراوح بين 10% و20%.

وباستثناء المجر، برزت الدول الأعضاء في مجموعة بوخارست التي تشكلت في عام 2015 ردًا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم كصوت قوي داخل الناتو، داعية إلى نقل أنظمة أسلحة أكثر تطورًا إلى أوكرانيا. وتضم المجموعة 9 من دول أوروبا الشرقية وهي بلغاريا، وجمهورية التشيك، وإستونيا، والمجر، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، ورومانيا وسلوفاكيا.

كما أعلنت بولندا، الشهر الماضي، زيادة إنفاقها العسكري إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وتقدمت بطلبات عديدة للحصول على الأسلحة من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

ومن الملاحظ أيضا زيادة التنسيق بين وارسو وواشنطن، لا سيما فيما يتعلق بتمركز أنظمة الناتو وأفراده، وتوفير التدريب للقوات الأوكرانية، وكذلك في الترتيب لـ “الزيارة المفاجئة” للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى كييف في 20 فبراير الجاري، والتي أعلن خلالها عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة نصف مليار دولار تشمل ذخائر للمدفعية وأنظمة مضادة للدروع وأجهزة رادار للمراقبة الجوية.

ويتمثل التحدي الذي يواجه الناتو في أن اتباع نهج “ذي سرعتين” تجاه أوكرانيا داخل الحلف يزيد من احتمالية الخلاف والانقسام، فبينما تتخذ بعض دول أوروبا الغربية مواقف وتدلي بتصريحات تعكس تحفظا واضحا تجاه درجة الانخراط في الصراع، ترى دول البلطيق وبولندا أن دعم أوكرانيا لا يجب أن يكون له سقف محدد، ولعل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا الذي قال فيه إن باريس ترغب في هزيمة موسكو في الحرب لكنها لا تريد سحق روسيا، مؤشر واضح على وجود فجوة وتباين كبير في المواقف داخل الناتو والاتحاد الأوروبي بشأن المقاربة الأنسب للتعامل مع روسيا.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأنه من المستبعد أن تصل الحرب الروسية الأوكرانية إلى محطتها الأخيرة خلال الأشهر المقبلة، فهي حرب استنزاف طويلة المدى سترسم معالم هيكل النظام العالمي وما ينبثق عنه من سياسات دولية، لتبقى نتائج الحروب على الأراضي الأوروبية محددا رئيسيا لشكل النظام العالمي سياسيًا واقتصاديًا، على غرار ما حدث في زمن الحربين العالميتين.   

زر الذهاب إلى الأعلى