في تصريح صادم وكاشف عن وصول لبنان إلى نقطة اللاعودة، وتحوله إلى دولة فاشلة مُنهارة على كافة الأصعدة، جاء إعلان نائب رئيس الوزراء اللبناني سعادة الشامي عن إفلاس الدولة اللبنانية ومصرف لبنان المركزي، مشيرًا إلى أنه سيجري توزيع الخسائر على الدولة، ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، لترسم تلك العبارة تحديدًا تفاصيل مشهد عبثي نتاج سنوات من الصراعات بين النخبة اللبنانية، وارتهان قرار الدولة اللبنانية لحزب الله ومن ورائه إيران، والفشل في وضع سياسات اقتصادية فعّالة، ما أحال لبنان من دولة ذات سيادة إلى شركة مفلسة على المساهمين فيها- في مقدمتهم الشعب – والقبول بقسمة الغرماء، بعدما تم تبديد أموال المودعين بدلا من تنميتها.
وفي ظل هذا الوضع، لم يكن من المستغرب أن يصبح اللبنانيون أتعس شعوب الأرض بعد أفغانستان، وهو ما وثقه تقرير “مؤشر السعادة العالمي” لعام 2022 الذي يصدر تحت إشراف الأمم المتحدة، إذ جاء لبنان في المركز قبل الأخير، بعدما بات أكثر من نصف سكانه يعيشون تحت خط الفقر، وانهارت قيمة العملة الوطنية أمام الدولار.
- ملاحظات أساسية حول تصريحات الشامي
توجد ثمة ملاحظات أساسية حول إعلان نائب رئيس الحكومة اللبنانية الذي صاحبه حالة من الجدل والتساؤلات حول مستقبل لبنان، الملاحظة الأولى أن إعلانًا مهمًا كهذا جاء خلال لقاء تلفزيوني مع قناة الجديد من قبل المسؤول الذي يتولى رئاسة اللجنة الوزارية المكلفة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي وفي وقت توجد فيه بعثة الصندوق في بيروت، في حين أن خطورة الوضع وحساسية الموضوع وتداخل أبعاده داخليًّا وخارجيًّا تتطلب إصدار بيان رسمي حكومي واضح يشرح حقيقة الوضع، وخارطة طريق ترسم آفاق الخروج من تلك الأزمة، وهو ما يعزز من فرضية أن التصريح بمثابة بالون اختبار لما يجري حاليًا من مفاوضات مع صندوق النقد تتطلب اتخاذ قرارات اقتصادية قاسية.
واللافت أن الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان) في لبنان امتنعت لعدة ساعات عن إصدار أي تعليق على ذلك الإعلان، إلى أن خرج رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بتصريحات تضمنت نفيًا خجولًا، قال فيها إن “تصريحات الشامي حول إفلاس لبنان تم اجتزاؤها”، وإنه “قصد السيولة المالية وليست الملاءة”، كما نفى رئيس مصرف لبنان المركزي رياض سلامة أيضًا إفلاس المصرف.
أما عن الملاحظة الثانية فتتصل بموقف الدولة اللبنانية من الديون السيادية المُستحقة عليها، فمنذ مارس 2020 توقف لبنان عن سداد ديونه الخارجية، حين قام بتعليق سداد كافة مستحقات سندات اليوروبوند بالعملات الأجنبية، وبدء مساعي التفاوض حول إعادة هيكلة الديون الخارجية والداخلية البالغة قرابة 90 مليار دولار، علمًا بأن حصة المصارف اللبنانية تناهز نصف سندات اليوروبوند المقدرة بنحو 30 مليار دولار. ويعني ذلك أن الدولة اللبنانية عمليًّا قد استوفت أحد الأركان الرئيسية لإعلان حالة الإفلاس منذ عامين حين باتت عاجزة عن سداد الديون السيادية، لكن تصريح نائب رئيس الحكومة اللبنانية يحمل معاني ودلالات موجهة للداخل اللبناني هذه المرة، فإعلان إفلاس الدولة يعني أنها لن تصبح قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية مثل دفع الرواتب، وسداد قيمة ما تستورده من بضائع وسلع أو على أقل تقدير هو تمهيد لاضطراب في دور الدولة فيما يتعلق بتلك الجوانب خلال الفترة المقبلة.
الملاحظة الثالثة على تصريحات الشامي تتعلق بتوقيتها في ظل مناخ سياسي مشحون في لبنان مع اقتراب البلاد من موعد الاستحقاق الخاص بالانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو المقبل، ومما لا شك فيه فإن شعور الناخبين بغياب الدولة ومؤسساتها في لبنان على صعيد الخدمات المنهارة، وتصريح مسؤول رفيع بالحكومة عن تقاسم الشعب خصوصًا المودعين خسائر مالية ناجمة عن سياسات مالية فاشلة ليسوا طرفًا فيها سيكون له انعكاس كبير على سلوكهم التصويتي في صناديق الاقتراع.
- سيناريوهات مستقبلية للوضع في لبنان
تضع تصريحات نائب رئيس الوزراء اللبناني – بصرف النظر عن محاولات تجميل الصورة لاحقًا بنفي خجول لمسألة الإفلاس- لبنان أمام عدة سيناريوهات خلال الفترة المقبلة، حيث يفترض السيناريو الأول حدوث انتفاضة شعبية ضد الطبقة الحاكمة والرئاسات الثلاث على غرار الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد في أكتوبر عام 2019 “انتفاضة 17 تشرين”، وقد يرافق تلك الاحتجاجات محاولات من جانب بعض الأطراف في مقدمتها ميليشيا حزب الله لاستخدام العنف ضد المحتجين، وهو ما سبق وأن حدث في عام 2019 حين قام مؤيدو حزب الله وحركة أمل بمهاجمة وتدمير مخيم الاحتجاج الرئيسي في وسط بيروت، إلا أن تكرار ذلك النهج هذه المرة مع حدة الغضب الشعبي قد يُنذر بانزلاق لبنان في أتون حرب أهلية.
أما عن السيناريو الثاني فيتعلق بالتمديد لمجلس النواب الحالي، وتأجيل الانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو المقبل، فقد تدفع الطبقة الحاكمة والتيارات السياسية نحو تأجيل الانتخابات خشية التصويت العقابي الذي تراهن عليه “قوى انتفاضة 17 تشرين” لتغيير المشهد السياسي، وستكون لهذا التأجيل تداعيات على مسار المحادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة الإصلاح الاقتصادي في ظل فجوة آخذة في الاتساع بين حكومة ميقاتي والشارع اللبناني تُصعب من تجرع الدواء المر لعلاج الأزمة الاقتصادية تحت إشراف صندوق النقد.
ويتعلق السيناريو الثالث بمراجعة للسياسة الخارجية اللبنانية وأولوياتها والسعي نحو اتخاذ خطوات من أجل استرضاء الدول الخليجية وتلطيف الأجواء معها بعد تجاوزات وزراء لبنانيين- كلفتهم مناصبهم- خلال الأشهر الماضية أضرت كثيرًا بلبنان وعلاقاته الخليجية، حيث ستسعى بيروت وفقًا لهذا السيناريو إلى اتخاذ خطوات وإجراءات بناء ثقة تؤكد عودته للحاضنة العربية، وتؤمن له علاقات طيبة مع دول الخليج العربي مثل تحجيم نفوذ حزب الله، واتخاذ الدولة اللبنانية مواقف سياسية تبرز استقلاليتها عن الأجندة الإيرانية، بما يفتح المجال أمام حصول لبنان على دعم مالي واقتصادي من الخليج، وهو اتجاه بدت ملامحه مؤخرًا في أكثر من موقف لعل أبرزها تصريحات وزير الداخلية والبلديات اللبناني، القاضي بسام مولوي الذي وصف فيها دول الخليج العربي بأنها “دول الخير والبركة”.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن سياسات الطبقة الحاكمة وسيطرة حزب الله – بولائه الخارجي لإيران- على قرار الدولة ومؤسساتها وإضراره بعلاقات لبنان الخارجية لا سيما الخليجية، جعلت الدولة اللبنانية مفلسة سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا، وأصبح أفق الخروج من الأزمة الطاحنة الراهنة شبه مسدود.
خلاصة القول إن وضع لبنان على طريق التعافي من الأزمات المركبة والمتداخلة التي يمر بها، وتجاوز الانهيار الاقتصادي والإفلاس يتطلب حكومة إنقاذ وطني بعيدة تمامًا عن نظام المحاصصة الطائفية، وتوزيع الحقائب الوزارية على أساس الاستحقاق والجدارة والكفاءة، وليس التعامل معها كغنائم يتقاسمها الفرقاء السياسيون، وتعزيز العلاقات بين لبنان والدول العربية والخليجية، والخروج من العباءة الإيرانية التي تلف لبنان في ظل ممارسات ميليشيا حزب الله.