تقارير

قلق تركي إزاء السياسة السعودية النشطة في “شرق المتوسط”

أبدت تركيا خلال الأسابيع القليلة الماضية مؤشرات متعددة توحي برغبتها في إحداث تحول في سياستها الخارجية، والعودة إلى سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار، التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية مع وصولها إلى السلطة في عام 2002، إلى أن تخلت عن تلك السياسة في أعقاب موجة الاضطرابات التي شهدتها المنطقة في عام 2011 التي عرفت إعلاميًّا بما يسمى بـ”الربيع العربي”، حيث وجدت في تلك التطورات فرصة لتنفيذ مشروعها الإقليمي، لكن بعد مرور نحو عقد من الزمن باتت أنقرة الآن في طور مراجعة لتلك السياسة بفعل التغيرات الراهنة في البيئة الإقليمية والدولية، والضغوط الداخلية على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
محاولات تركية متسارعة لخطب ود الرياض
وتجسد التوجه التركي الجديد الساعي إلى خطب ود القوى الإقليمية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية في تصريحات من مختلف المستويات السياسية سواء من أردوغان أو وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو أو من حزب العدالة والتنمية الحاكم، إذ أرادت أنقرة التقرب إلى المملكة وكذلك مصر والإمارات.
وحرصت تركيا على توجيه رسائل دبلوماسية إيجابية إلى الرياض تمثلت في تصريح وزير الخارجية التركي، الذي أبدى فيه رغبة بلاده في تحسين العلاقات مع المملكة، وكذلك تأكيد السفير التركي في الدوحة أن تركيا تريد علاقات جيدة مع السعودية، مشددًا على المكانة المهمة للمملكة في المنطقة والعالم.
ومما لا شك فيه فإن تلك التغيرات الآخذة في التشكل في السياسة التركية تنبع من قراءة جديدة لتطورات المشهد الإقليمي والدولي، وتعكس محاولة لإعادة التموضع والتكيف مع المستجدات، لا سيما وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، والذي لا تخفي إدارته انتقاداتها واعتراضاتها على سلوك أردوغان داخليًّا أو خارجيًّا، بجانب اشتداد الضغوط التي تواجهها أنقرة في ملف النزاع على موارد الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فهذان العاملان من أهم الأسباب التي دفعت حكومة أردوغان إلى الاتجاه نحو تغيير سياستها الخارجية، وإن كانت حدود ذلك التغيير حتى الآن لم تتجاوز نطاق العبارات الدبلوماسية، أي لم تنعكس في خطوات فعلية على الأرض.
الانخراط الفاعل للمملكة في منطقة شرق المتوسط
تتبنى المملكة العربية السعودية استراتيجية لتوسيع دوائر تحالفاتها في المنطقة بما يحقق ويحافظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية، ومن هذا المنطلق جاء الانخراط السعودي في منطقة شرق المتوسط لما لها من تأثير استراتيجي على أمن شمال المملكة، فضلاً عن أهمية شرق المتوسط في استراتيجيات تكامل الطاقة الإقليمي التي تؤثر بصورة غير مباشرة على أمن الخليج العربي، وقد أثار ذلك الانخراط مخاوف جيوسياسية لدى دوائر صُنع القرار في تركيا، التي تستشعر خطرًا إزاء أي تحالفات أو تحركات في منطقة شرق المتوسط، فهي تعتبر تلك المنطقة مجالًا حيويًّا ومنطقة نفوذ لها، لذا تنظر بعين الشك والريبة لأي تقارب مع دول تلك المنطقة، وتحديدًا قبرص واليونان، لخلافاتها التاريخية معهما.
وقد اتخذت السعودية أولى خطوات الانخراط في تلك المنطقة في سبتمبر 2019 حين عززت علاقتها الدبلوماسية مع قبرص بإرسال أول سفير سعودي مقيم إلى نيقوسيا، وفي الشهر ذاته قام وزير الخارجية السعودي آنذاك إبراهيم العساف بزيارة إلى قبرص التقى خلالها الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس ووزير خارجيته نيكوس خريستودوليديس، في زيارة هي الأولى من نوعها لوزير خارجية سعودي منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وكانت تلك الخطوة بداية لوتيرة مكثفة من الاتصالات والزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، حيث زار وزير الخارجية السعودي صاحب السمو الأمير فيصل بن فرحان قبرص في السابع من أغسطس الماضي، فيما استقبل نظيره القبرصي في الرياض في 19 يناير الماضي.
وحددت المملكة خلال تلك اللقاءات الخطوط العامة لمواقفها من التطورات في منطقة شرق المتوسط، والتي تمثلت في تأكيد الحرص على الأمن والاستقرار في شرق المتوسط، والدعم الكامل لسيادة قبرص على أراضيها، والدعوة للالتزام بقرارات مجلس الأمن لحل النزاعات، والنأي عن التصعيد واحترام قواعد القانون الدولي، وكذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أو محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة؛ لأن ذلك لا يخدم الأمن والسلم الدوليين.
وفي ذات الإطار، عملت المملكة على توطيد علاقتها مع اليونان، ومن مظاهر ذلك: تعدد زيارات كبار المسؤولين اليونانيين إلى المملكة خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ قام رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس بزيارة إلى الرياض في الثالث من الشهر الماضي، التقى خلالها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ما شكّل دفعة قوية لتعزيز التعاون بين البلدين.
واللافت أنه عقب أسبوع من تلك الزيارة المهمة، شاركت السعودية مع اليونان في إطلاق منتدى الصداقة في أثينا الذي يضم أيضًا كلاً من قبرص ومصر والإمارات والبحرين وكذلك فرنسا بصفة مراقب، في خطوة لتعزيز وتوطيد أواصر الصداقة والتعاون بين تلك الدول الشريكة في المنطقة الأوسع الممتدة من البحر المتوسط إلى الخليج، ومواجهة التحديات الأمنية المشتركة.
ووفقًا لصحيفة “كاثيميريني” اليونانية، فإنه على الرغم من أن البيان المشترك الذي صدر بعد تدشين المنتدى استخدم لغةً شاملةً للترويج للسلام والأمن والاستقرار في المنطقة، إلا أنه استهدف ضمنيًّا أولئك الذين لا يبدو أنهم يلتزمون بالمواقف والقيم المشتركة الواردة في البيان، أي تركيا.
ولذلك لم يكن من المستغرب رد الفعل التركي الغاضب إزاء المنتدى، إذ شنت الخارجية التركية على لسان المتحدث باسمها حامي أقصوي هجومًا دبلوماسيًّا عنيفًا على اليونان، معتبرًا أن المنتدى محاولة تحالف على العداء لتركيا، وليس على الصداقة، على حد تعبيره.
كما عبّر محللون وكتّاب موالون لحكومة العدالة والتنمية عن قلقهم من المنتدى، ووصفوه بأنه “معاد لتركيا”، ومن هؤلاء الكاتب التركي، إبراهيم كاراجول الذي اعتبر أن الهدف من المنتدى تطويق تركيا من جهة البحر المتوسط وبحر إيجة، وفقًا لصحيفة “أحوال” التركية.
ونشر مركز الاستراتيجيات البحرية والعالمية بجامعة بهتشة شهير التركية، تغريدة على حسابه بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” جاء فيها أن المنتدى مناهض للأتراك، محذرًا من أن دعم اليونان يمثل تهديدًا لتركيا.
وتجدر الإشارة إلى أن ذلك المركز يحظى بأهمية في رسم معالم السياسة التركية في شرق المتوسط، لا سيما وأن القائم على إدارته الأدميرال البحري التركي المتقاعد جيم جوردينيز مطور استراتيجية الوطن الأزرق التي حددت أهداف تركيا الاستراتيجية من خلال الأدوات الدبلوماسية والوسائل العسكرية في البحار المحيطة بها (الأبيض المتوسط، إيجة، الأسود، مرمرة)، لتوفير احتياجاتها من الطاقة ودعم مواردها الاقتصادية.
مخاوف تركية من المناورات السعودية اليونانية “عين الصقر1”
ولم يقتصر الدور السعودي النشط في منطقة شرق المتوسط على المجالات الدبلوماسية والسياسية، بل امتد إلى تعميق التعاون في المجال العسكري، وهو ما تعكسه المناورات السعودية اليونانية التي تحمل اسم “عين الصقر 1”.
وبحسب بيان لهيئة الأركان العامة اليونانية على موقعها الإلكتروني، فإن التدريب الذي ينطلق في 16 مارس 2021م، سيستمر حوالي أسبوعين، مشيرا إلى أنه سيتم تنفيذ تدريبات على إصابة الأهداف في البر والبحر، وفقًا لموقع قناة “خبر ترك” التركية.

وتشارك القوات الجوية الملكية السعودية بطائرات مقاتلة من طراز (إف -15 سي) مع كامل أطقمها الجوية والفنية والمساندة، حيث تنطلق التدريبات من قاعدة سودا الجوية بجزيرة كريت اليونانية.
وتقوم القوات الجوية الملكية السعودية ونظيرتها اليونانية خلال تلك التدريبات بطلعات جوية وتدريبات مشتركة في سماء المتوسط، وذلك بهدف صقل وتطوير مهارات الأطقم الجوية والفنية ورفع الجاهزية القتالية للقوات الجوية السعودية، ‏إضافة إلى تبادل الخبرات العسكرية في مجال تنفيذ وتخطيط العمليات الجوية، وفقًا لوكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس”.
وبحسب موقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” في نسخته التركية، تخطط هيئة الأركان العامة اليونانية على المدى الطويل لجعل جزيرة كريت مركز جذب للتعاون والتدريب مع الدول الحليفة والصديقة المهتمة بالمنطقة. وكانت الإمارات قد نشرت ست طائرات مقاتلة من طراز “إف-16″، في قاعدة سودا الجوية ضمن تدريبات خلال أغسطس من العام الماضي، في وقت كانت التوترات بين تركيا واليونان تتصاعد على خلفية قيام سفينة “عروج ريس” التركية بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل اليونان.
وفي مؤشر واضح على القلق التركي، أعرب أردوغان في عشية وصول الطائرات السعودية إلى كريت عن أسفه وحزنه إزاء إجراء تلك المناورات، مشيرًا إلى أنه سيبحث ذلك الأمر مع السلطات السعودية، وبينما كان هذا هو رد الفعل الرسمي، ركزت وسائل الإعلام التركية على تغطية خبر المناورات وطبيعة الطائرات المشاركة فيها، مشيرة إلى أن المقاتلات السعودية من طراز (إف -15 سي)، لافتة إلى أن المملكة صاحبة أكبر أسطول من هذا الطراز بعد كل من الولايات المتحدة واليابان.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الاهتمام الذي أبدته المملكة بمنطقة شرق المتوسط وانخراطها في علاقات تعاون ثنائي مع دول المنطقة لا سيما اليونان وقبرص، وأيضًا أطر تعاون جماعية كمنتدى الصداقة، أدى لإثارة قلق تركيا التي تدرك أن المملكة بما لها من مكانة اقتصادية ودورها كقوة سياسية وازنة على المستويين الإقليمي والدولي، ستشكل حجر عثرة أمام محاولاتها تحقيق مكاسب جيوسياسية في تلك المنطقة، فدعم المملكة لكل من قبرص واليونان يأتي في توقيت تشهد فيه منطقة شرق المتوسط حالة من التنافس والصراع الشديد مع اكتشاف ثروات ضخمة من الغاز في المنطقة، بجانب موقعها الاستراتيجي حيث تعتبر ممرًا تجاريًّا ونفطيًّا مهمًّا بالنسبة لدول العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى