سيطرت تقنيات التسويق الرقمي وأنظمتها البيئية على النمو في ميزانيات التسويق لأكثر من عقد من الزمان، نظرًا لتحويل المستهلكين انتباههم من وسائل الإعلام التقليدية إلى وسائل الإعلام الجديدة، وبالتالي فقَدَ الإعلان التقليدي بعضًا من جاذبيته، ووجّه المسوقون إنفاقهم الإعلاني من التلفزيون والراديو والصحف والإعلانات الخارجية إلى القنوات الرقمية مثل تيك توك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي.
وعلى مدار العقد الماضي، توقع المسوقون باستمرار انخفاض إنفاقهم الإعلاني التقليدي، لكن وفقًا لبيانات الإصدار الثامن والعشرين من مسح CMO (مشروع بحثي تديره البروفيسورة كريستين مورمان بكلية فوكوا للأعمال بجامعة ديوك) أبلغ المسوقون في المتوسط عن انخفاض سنوي في الإنفاق الإعلاني التقليدي بنسبة 1.4% بين فبراير 2012 و2022، مقارنة بزيادة سنوية قدرها 7.8% لميزانيات التسويق الإجمالية خلال الفترة نفسها.
ومع ذلك، تشير الدلائل الحديثة إلى أن هناك تحولًا جاريًا، فعلى عكس الاتجاه السائد، توقع المسوقون زيادة الإنفاق الإعلاني التقليدي في أغسطس 2021 وفبراير 2022، بنسبة 1.4% و2.9% على التوالي، إذ تقود شركات B2C التي تقدم خدمات للمستهلك مباشرة هذا التحول، حيث تتوقع أكبر زيادة في الإنفاق الإعلاني التقليدي بنسبة 10.2%، تليها شركات B2C التي تقدم منتجات للمستهلك مباشرة بنسبة 4.9%. ومن المفارقات إلى حد ما، أن الشركات التي تتم مبيعاتها بالكامل عبر الإنترنت تتوقع زيادة بنسبة 11.7% في الإنفاق الإعلاني التقليدي على مدى الـ 12 شهرًا المقبلة.
يدفع هذا الوضع لتساؤل حول أسباب صعود الإعلان التقليدي مجددًا، وهل سيستمر هذا الاتجاه؟ وقدم مقال تحليلي مشترك للبروفيسورة كريستين مورمان ونادر تافاسولي أستاذ التسويق في كلية لندن للأعمال، وميغان رايان باحثة ماجستير إدارة أعمال في كلية فوكوا للأعمال، نشرته مجلة “هارفارد بزنس ريفيو” الأمريكية في أبريل 2022 إجابات لتلك التساؤلات، نستعرضها على النحو التالي:
- اختراق الفوضى الرقمية
نظرًا لأن المستهلكين يقضون معظم ساعات استيقاظهم عبر الإنترنت، يبدو أنهم أصبحوا غير مبالين بشكل كبير تجاه الإعلانات الرقمية ومشاركتها. لقد أبلغوا عن الإحباط والارتباط السلبي للعلامة التجارية بفوضى الإعلانات الرقمية التي تمنعهم من قراءة مقال أو مشاهدة مقطع فيديو أو تصفح أحد مواقع الإنترنت. فعلى سبيل المثال، وجد استطلاع أجرته مؤسسة “HubSpot” للتسويق أن 57% من المشاركين لم تعجبهم الإعلانات التي يتم تشغيلها قبل مقطع فيديو و43% لم يشاهدوها حتى، نتيجة لذلك يبحث المسوقون عن طريقة للتغلب على تلك الضوضاء.
من ناحية أخرى، تشهد الإعلانات التقليدية زيادة في المشاركة، إذ أفاد معهد “MarketingSherpa” المتخصص في التسويق بأن أكثر من نصف المستهلكين يشاهدون غالبًا أو دائمًا الإعلانات التلفزيونية التقليدية ويقرؤون الإعلانات المطبوعة التي يتلقونها عبر البريد من الشركات التي يشعرون بارتياح نحوها. كما تشير الأبحاث التي أجرتها شركة “Ebiquity” الرائدة عالميًا في تحليل الاستثمار الإعلامي إلى أن وسائل الإعلام التقليدية – التلفزيون والراديو والمطبوعات – تتفوق في الأداء على القنوات الرقمية من حيث الوصول والاهتمام والمشاركة، ويتم تضخيم فارق الأداء هذا مع زيادة تكاليف الإعلان عبر الإنترنت، لا سيما عند احتساب مرات الظهور والنقرات، في حين تنخفض تكاليف وسائل الإعلام التقليدية، لذا يبدو من المنطقي اقتصاديا إعادة موازنة الإنفاق بعيدًا عن تلك الفوضى الرقمية.
- الاستفادة من ثقة المستهلكين في الإعلانات التقليدية
أظهر استطلاع لمعهد “MarketingSherpa” المتخصص في التسويق أن أفضل خمسة تنسيقات إعلانية موثوق بها كلها تقليدية، حيث يثق العملاء في الإعلانات المطبوعة بنسبة 82%، والإعلان التلفزيوني بنسبة (80%)، والإعلان عبر البريد المباشر بنسبة (76%)، والإعلانات من خلال محطات الإذاعة بنسبة (71%) لاتخاذ قرارات الشراء. وبالمثل وجد أن المستهلكين البريطانيين والأمريكيين يثقون في الإعلانات التقليدية مثل التلفزيون والراديو والمطبوعات أكثر من إعلانات وسائل التواصل الاجتماعي. ونتيجة لذلك يُمكن للمسوقين استخدام الإعلانات التقليدية لبناء المصداقية للعلامة التجارية والثقة مع المستهلكين.
- الاستعداد لمرحلة التخلص من ملفات تعريف ارتباط الطرف الثالث
اعتمد المسوقون لسنوات على ملفات تعريف الارتباط للجهات الخارجية لتتبع زوار موقع الإنترنت، وذلك باستخدام بيانات مفصلة عن تفضيلات البحث الخاصة بهم لتحسين تجربة المستخدم واستهداف المستهلكين بتجارب إعلانية مخصصة. ومع قيام محرك البحث العملاق “جوجل” بالتخلص التدريجي من ملف تعريف ارتباط الطرف الثالث على متصفحات كروم بحلول أواخر عام 2023 وتنفيذ شركة آبل للهواتف تغييرات على نظام التشغيل “iOS14″، أصبحت نهاية ملفات تعريف ارتباط الطرف الثالث وشيكة. وقد وجد استطلاع “CMO” أن 19.8% من الشركات استثمرت أكثر في الإعلانات التقليدية.
وبسبب هذا التغيير الحتمي في مشهد الإعلان، سيضطر المسوقون إلى الاعتماد على طرق تقترب من نماذج الإعلان التقليدية، فمن دون الاستهداف المتقدم المستند إلى البيانات، سيحتاج المسوقون إلى إعادة التركيز على توسيع مدى وصولهم.
- استغلال نمو البودكاست
على عكس إعلانات البانر والشاشة والإعلانات الاجتماعية الأخرى التي تظهر غالبًا في التصفح اليومي للمستهلكين، يستخدم البودكاست نهجًا عند الطلب يشبه إلى حد كبير الراديو التقليدي. وهذا أحد أسباب نجاح الإعلان.
ووفقًا لـشركة “Ads Wizz” المزود العالمي الرائد لحلول الإعلانات الصوتية الرقمية، سجلت إعلانات البودكاست زيادة بنسبة 81% في مرات الظهور. وتعد تلك الإعلانات فعّالة لأن المستمعين يثقون في مضيفي البودكاست ويتأثرون بهم.
وقد وجدت دراسة أجرتها شركة “Edison Research” للتسويق أن 45% من مستمعي البودكاست يعتقدون أن مضيفي البودكاست المُفضلين لديهم يشيرون بالفعل إلى علامات تجارية في برامجهم. ويولي ما يقرب من نصف المستمعين اهتمامًا أكبر لإعلانات البودكاست مقارنة بأي تنسيق آخر.
- استغلال الصعود الرقمي للوسائط التقليدية
يمكن للتكنولوجيا الرقمية الاستفادة من الأدوات التقليدية بطرق قوية ومدهشة. فعلى سبيل المثال، من كان يظن أن البريد المباشر يعود من جديد؟ هذا هو بالضبط ما حدث عند إقران رسائل البريد برمز الاستجابة السريعة الذي يمكن للمستهلكين مسحه ضوئيًا. علاوة على ذلك تسمح عناوين URL الفريدة ورموز QR للمسوقين بجمع بيانات دقيقة للغاية، مما يمكنهم من تطوير تحليلات تسويقية قوية فيما يتعلق بعائد الاستثمار، وتقويض ميزة القنوات الرقمية.
- الملاءمة مع السوق
التسويق هو فن وعلم التطورات غير المتوقعة والسياق. وهذا يعني أنه في بعض الأحيان يكون الإعلان التقليدي مناسبًا تمامًا لبعض العلامات التجارية والأسواق والرسائل. فعلى سبيل المثال، يستمر البث التلفزيوني في تقديم منصة مثالية لإعلانات سرد القصص العاطفية.
ويتيح “التلفزيون القابل للعنونة – Addressable TV” إمكانية استهداف شرائح المشاهدين بدقة عبر البث التلفزيوني عند الطلب والبث المباشر، مما يؤدي إلى تآكل ميزة الاستهداف للقنوات عبر الإنترنت.
- إعادة النظر في الفاعلية الرقمية
يظهر استطلاع “CMO” أن 54.8% من المسوقين يتتبعون أداء التسويق الرقمي في الوقت الفعلي في حين يقوم 35.2% بذلك فصليًا أو أسبوعيًا. في الوقت نفسه، أصبح المسوقون أيضًا متشككين في العوائد الهائلة للوسائط الرقمية، لأن المنصات تتحكم في كل من مخزون الإعلانات وقياس فاعليتها. وقد أثار هذا مخاوف تتعلق بالمصداقية فيما يتعلق بالاحتيال في الإعلانات، والقلق من أن الإعلان الرقمي قد يكون أقل فاعلية بكثير مما يتم الإبلاغ عنه.
كما أن الوعد الرقمي بالاستهداف المفرط والتخصيص هو أيضًا قيد التدقيق، فعلى سبيل المثال، يُظهر البحث الأكاديمي الأخير الذي أجراه جينج لي الأستاذ المساعد في كلية إدارة الأعمال بجامعة نانجينغ الصينية، في دورية “Journal of Marketing” أن “إعادة الاستهداف-retargeting” للجمهور يمكن أن تأتي بنتائج عكسية إذا تم إجراؤها في وقت مبكر جدًا.
باختصار، يتعلم المسوقون أن مزايا الوسائط الرقمية يمكن أن تكون سيفًا ذا حدين، فأصبحوا أكثر حذرًا بشأن تبنيها بشكل أعمى.
وأخيرًا، فبينما توقع النقاد منذ فترة طويلة زوال الإعلانات التقليدية، إلا أنها ما زالت موجودة وتتجه نحو النمو لأول مرة منذ عقد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدام كل من التسويق التقليدي والرقمي يسهم في الوصول إلى المزيد من الجماهير، وبناء الثقة والحفاظ عليها، وتحفيز المستهلكين على الشراء.