مع حلول فصل الصيف في ظل وباء كورونا المستجد، بدأ تخفيفٌ هَشٌّ لقيود السفر، إذ من المقرَّر أن تعيدَ دول الاتحاد الأوروبي فتحَ حدودها الداخلية خلال الشهر الجاري، وتخطِّطَ للسماح باستقبال المسافرين من الخارج في يوليو المقبل.
وبدأت سنغافورة والصين باستئناف حركة السفر بينهما، ولكن فقط للمسافرين الذين ثبت عدمُ إصابتهم بالفيروس، واستخدموا تطبيقَ تتبُّع جهات الاتصال، ولم ينحرفوا عن مسار رحلتهم. وستسمح أيسلندا باستقبال السياح، لكنها تخطط لإجراء فحوصات لهم في المطار.
وتعمل شركات الخطوط الجوية، المتوقفة عن العمل منذ عدة أشهرٍ، على تعزيز جداولها الصيفية، على الرغم من أن عدد الرحلات سيكون ضئيلًا مقارنةً بمرحلة ما قبل الوباء.
ولا تزال المطارات في الغالب مدنَ أشباحٍ، والسفر لمسافاتٍ طويلةٍ على المستوى الدولي متوقفًا، وفي جميع أنحاء العالم، فأدَّى انهيار الاقتصاد السياحي إلى إفلاس الفنادق والمطاعم ومشغِّلي الحافلات ووكالات تأجير السيارات، وفِقدان ما يقدَّر بنحو 100 مليون شخص لوظائفهم.
وفي ظل حالةٍ من عدم اليقين والخوف، لا أحد يعرف مدى السرعة التي سيتعافى بها قطاعا السياحة والسفر، وكيف ستبدو تجربة السفر والسياحة بمجرد اتخاذ تدابير جديدة للأمن الصحي، لكنْ هناك شيءٌ واحدٌ مؤكَّدٌ ألا وهو أنه حتى ذلك الحين، سيكون هناك العديد من الإجازات الملغاة، ورحلات العمل، وعطلات نهاية الأسبوع، وجمْع شمْل الأُسَر.
وللنظر إلى ما بعد الموسم الصيفي والتفكير في الكيفية التي سيغيِّر بها الوباءُ السفرَ بشكلٍ دائمٍ، استعرضت مجلة فورين بوليسي الأمريكية آراء خبراء بارزين لاستشراف مستقبل السياحة والسفر على النحو التالي:
تغييرات طويلة الأجل.. وآمال معقودة على “فقاعات السفر”
يرى جيمس كرابتري، الأستاذ المشارك في كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، أنه تمامًا كما تترك البطالة الجماعية ندوبًا لا تُمحى في أسواق العمل، فإن انهيار السفر العالمي الحالي سيجلب تغييراتٍ طويلةِ المدى لأنماط الحركة الدولية لأغراض العمل والسياحة.
ويشير كرابتري إلى أن شركات الطيران والفنادق تأمل في أن تسمح “فقاعات السفر- travel bubbles” الناشئة (مجموعات صغيرة من الدول التي تعيد فتح الحدود فيما بينها فقط) و”الممرات الخضراء-green lanes” للمسافرين الذين تم فحصُهم مسبقًا، مثل أولئك الذين لديهم أجسامٌ مضادةٌ تُظهر مناعةً ضد فيروس كورونا، بإعادة الفتح التدريجي.
ويأملون أيضًا في استئناف السفر العادي تقريبًا في العام المقبل. والأرجح أن يعمل نظام جديد من المناطق الآمنة المتشابكة في المستقبل المنظور، أو على الأقل حتى يتم نشر لقاحٍ ضد الفيروس على نطاقٍ واسعٍ.
وسيصبح السفر طبيعيًّا بشكلٍ أسرعَ في المناطق الآمنة التي تعاملتْ بشكلٍ جيدٍ مع الفيروس، مثلًا بين كوريا الجنوبية والصين، أو بين ألمانيا واليونان. ولكن في البلدان النامية الفقيرة التي تكافحُ من أجل السيطرة على الوباء، مثل الهند أو إندونيسيا، سيكون تحقيقُ أيِّ انتعاشٍ بطيئًا بشكلٍ مؤلمٍ.
ويرجِّح كرابتري أن يؤدِّي كلُّ هذا إلى تغيير هيكل السفر العالمي في المستقبل، حيث سيختار الكثيرون عدمَ التحرُّك على الإطلاق، وخاصة كبارَ السن.
وسوف يكتسب السياح الذين يجرِّبون مواقعَ جديدةً في مناطقهم الآمنة أو بلدانهم عاداتٍ جديدةً، وستعمل البلدان ذاتُ السجلات الوبائية القوية على توزيعهم ضمن استراتيجيات تسويقٍ سياحيةٍ وسيكون الشيءُ نفسُه صحيحًا بالنسبة للأعمال التجارية، حيث ستؤدي سهولة السفر والشعور الجديد بالمصير المشترك داخلَ كلِّ منطقةٍ آمنةٍ إلى إعادة هيكلة الاستثمار وفقًا لخطوط انتشار الوباء.
دفعة سريعة نحو المستقبل والعوالم الافتراضية
ويقول الأكاديمي الأمريكي فيفيك وادوا أنه قضى على مدار الشهر الماضي وقتًا مع عدد من الرؤساء التنفيذيين أكثر ممَّا كان سيلتقي خلال عامٍ، حيث كانوا مشاركين ويقظين ومنفتحين على تبادُل الأفكار حول إعادة ابتكار شركاتهم دون الحاجة إلى حُرَّاس البوابة أو الرافضين لإفساد المناقشات.
قبل شهرين، كان من غير المتصوَّر الاجتماعُ عبر “سكايب –Skype” أو “زوم-Zoom”؛ الآن بات هذا هو القاعدة، فقد دَفَعَنَا الوباء إلى التقدُّم بسرعةِ عَشْرِ سنواتٍ نحو المستقبل، لافتًا إلى أن القفزة التالية إلى الأمام ستأتي من الواقع الافتراضي، الذي يتقدم بسرعةٍ فائقةٍ.
وستنتقل اجتماعات العمل والإجازات العائلية والأنشطة الترفيهية بشكلٍ متزايدٍ إلى عوالمَ افتراضيةٍ، ربما رحلة إلى جزيرة تاهيتي في المحيط الهادئ أو كوكب المريخ.
تراجُع فى القدرة على السفر والسياحة
تشير إليزابيث بيكر، الصحفية الأمريكية المتخصصة في تغطية شؤون الاقتصاد الدولي، ومؤلِّفة كتاب “حجوزات مفرطة: قطاع السفر والسياحة المزدحم”، إلى أنه بين عشيةٍ وضحاها، انتقل معظم العالم من حركة السياحة المفرطة إلى حركة السياحة المعدومة.
ومنذ ذلك الحين، رأى السكان المحليون كيف تحسَّنت حياتُهم دون تلك الحشود، حيث السماءُ الصافيةُ مع آفاقٍ تمتدُّ لأميالٍ، وانخفاض كبير في القمامة والنفايات، والشواطئ والقنوات النظيفة، وعودة الحياة البرية.
لكن الأعمال التجارية توقفت بدون هؤلاء السياح، وكشفت إلى أي مدى يعتمد الاقتصاد العالمي على حركة السفر دون توقُّف. وسيعني الدمار الاقتصادي الناجم عن الوباء أن عددًا أقلَّ بكثيرٍ من الناس يستطيعون السفر، ومَهْمَا كان مستوى الدخل، فإن السفر سيأخذ شريحةً أكبرَ من الدخل المتاح.
وترجِّح بيكر أنْ تقوم بعضُ الحكومات الوطنية والمحلية بإعادة تصميم استراتيجياتها السياحية للحد من الزحام، والاحتفاظ بالمزيد من الأموال في الاقتصاد المحلي، وفرض اللوائح المحلية بما في ذلك تلك التي تحمي البيئة، وستصبح العديد من البروتوكولات الصحية دائمةً.
كما ستتنافس حكومات أخرى على تقليص الدولار السياحي (أى تقليص الرسوم الإضافية على سعر الدولار لدى إنفاقه في أي سلعٍ أو خدماتٍ شخصيةٍ من الخارج)، مما يسمح لصناعة السفر بتنظيم نفسها، باستخدام خصومات كبيرة لملء الفنادق والطائرات وإحياء حركة السياحة الكثيفة.
وسوف يثق المسافرون في الأماكن ذات الحَوْكَمَة الجيدة والأنظمة الصحية. سيأخذون رحلاتٍ أقلَّ ويبقون لفترةٍ أطولَ. ويرون هذا الوباء كتوقُّع لما سيأتي من أزمة المناخ. سوف يتصرَّفون مثل المواطنين المسؤولين وكذلك المسافرون المتحمِّسون.
حرية السفر ضرورية لإنعاش قطاع النقل الجوي
يعتبر المدير العام لاتحاد النقل الجوي الدولي والرئيس التنفيذي السابق لشركة الطيران الفرنسية “كي إل إم”، ألكسندر دي جونياك، أنه من السابق لأوانه التنبُّوء لما سيحدث لقطاع السفر على الأمد الطويل طويل المدى، مؤكدًا أن الناس سيعتادون أنماطَ سفرٍ جديدةً في المستقبل المنظور، إذ سيشهد قطاع الطيران تقليلَ الاتصال الشخصي المباشر، وزيادة التعقيم، وفحوصات درجة الحرارة، والتباعُد الاجتماعي، كما ستنتشر الأقنعة في الأماكن المكتظة، سواء في المطارات أو على مَتن الطائرات.
وأوضح جونياك أن توقُّفَ حركة الطيران على مدار الأشهر الماضية، منح صناعة الطيران وقتًا للتخطيط والاستعداد للمستقبل، لافتًا إلى أن منظمة الطيران المدني الدولي، طوَّرت خُطة إعادةِ تشغيلٍ عالميةً للحفاظ على سلامة الأشخاص عند السفر.
وسيمنح ذلك الحكومات والمسافرين الثقة بأن منظومة الطيران الجديدة تتمتَّع بإجراءاتٍ وقائيةٍ قويةٍ، مؤكدًا أن حرية السفر ستكون ضروريةً لإنعاش القطاع.
تذكيرٌ بأهمية السفر بالنسبة للحياة الحديثة
يقول جيمس فالوز الصحفي المخضرم بمجلة ذي أتلانتك الأمريكية، إنه نظرًا لأن عملية السفر كانت روتينية جدًّا ومتزايدةً في كثيرٍ من الأحيان، نادرًا ما ركَّز الناسُ في عصر ما قبل الوباء على مدى أهمية هذه العملية -الحركة البشرية كبيرة الحجم وعالية السرعة ومنخفضة التكلفة نسبيًّا– من أجل الحداثة.
ويضيف فالوز: اعتبر الطلابُ أن بإمكانهم التطلُّعَ إلى برنامجٍ أكاديميٍّ في منطقةٍ أو بلدٍ أو قارَّةٍ مختلفةٍ ثم يعودون لزيارة عائلاتهم. كما كان للمهاجرين، أو الذين تغرَّبوا عن بلادهم بضعَ سنواتٍ من أجل العمل أو غيره يُدركون أن بمقدورهم العودةَ لوطنهم، وبإمكان العائلات أنْ تتجمَّع لحفلات الزفاف والتخرُّج، بل وحتى في الجنازات.
كما أصبحت مناطق الجذب الثقافية والسياحية في العالم مفتوحةً أمام الناس من جميع أنحاء العالم.
وقبل الإغلاق الناجم عن كورونا، كان من السهل سردُ الأضرار التي ألحقها السفر الجماعي، بدءًا من الحشود الساحقة في البندقية أو مدينة ماتشو بيتشو في بيرو إلى الحياة النمطية في الفنادق والمطارات في جميع أنحاء العالم، وهو ما قد يضيع بسبب الانقطاع الطويل الناجم عن كورونا.
ازدهار السفر والرحلات السياحية على المستوى المحلي
ويرى رولف بوتس، الكاتب المتخصص في السفر والرحلات أن إحدى التفصيلات المذهلة حول جائحة كورونا، أن المناطق التي تتفشَّى فيها الإصابات تسمَّى النقاطَ الساخنةَ، وهي نفس العبارة تمامًا التي تستخدمها صناعة السفر التجاري والسياحة، للإشارة إلى وجهاتٍ شائعةٍ وعصريةٍ.
ويشير بوتس إلى أن عصر العَوْلَمَة، مكَّن من انتشار الفيروس بطريقةٍ غير مسبوقة تاريخيًّا، وبالنسبة للعديد من الأشخاص، يعد السفر مرادفًا للعطلات، ولكن بطريقةٍ ما لن تكون العطلات نموذجًا للسفر بعد الوباء.
ويوضح بوتس أن حركة السفر في السنوات الأخيرة أدت إلى الاكتظاظ السياحي في أماكنَ مثلِ البندقية وبالي، لكنه يشكُّ في أن الرغبة في الذهاب إلى ما يسمى النقاط الساخنة أو الوجهات السياحية العَشْر الأولى ستدفع الموجة التالية من السفر.
لا شك أن عالم السفر الجديد سيشهد طفرةً في السفر الداخلي، سيذهب الكثيرون بسيارةٍ صغيرةٍ أو سيارةٍ ترفيهيةٍ وهذا أمرٌ منطقيٌّ، نظرًا لأن الفرد يكون أكثرَ اكتفاءً ذاتيًّا عندما يسافر بهذه الطريقة.
وسيعود السفر الدولي أيضًا، عن طريق أفراد الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم والباحثين عن العودة إلى عائلاتهم في أوطانهم، سواء كان ذلك في نيجيريا أو الإكوادور أو بولندا.
الفضول الثقافي دافع رئيسي لاستمرار السفر والسياحة
يرجِّح الروائي بيكو إيير، الذى ألَّف 15 كتابًا تمت ترجمتُها إلى 23 لغةً، أنْ يكونَ القلق بشأن السفر أكبرَ في الموسم المقبل، وتكون تكلفة السفر أعلى، لكنه يؤكد أن حركة العولمة لا يمكن وقفُها، فلا يمكن مَحْوُ الفضول الثقافي، لافتًا، على سبيل المثال، إلى أن رحلاته إلى كوريا الشمالية أظهرت ما يحدث عندما لا يتمكَّن الناس من رؤية العالم مباشرةً.