تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة الإيرانية بشأن وباء كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى إصابة 23,049 ألف شخص، وتسجيل 1812 حالة وفاة في جميع أنحاء البلاد حتى 23 مارس الجاري، وهي حصيلة بشعة بما فيه الكفاية، ولكن هناك أسباباً تجعلنا نعتقد أن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير.
مؤخراً، صرح كيانوش جاهانبور، المتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية في تغريدة على حسابه بموقع التدوينات القصيرة “تويتر”، بأن 50 شخصاً في المتوسط يصابون بالفيروس في إيران كلّ ساعةٍ تقريباً، وأن معدّل الوفيات هو شخص واحد كلّ 10 دقائق، أو 6 أشخاص في الساعة.
وقد عكس هذا التصريح الواقعي تحذيراتٍ سابقةً من قبل مسئولي الصحة الإيرانيين، بأن العدد الحقيقي للإصابات والوفيات الناجمة عن فيروس كورونا أعلى بالتأكيد مما تعترف به الحكومة، بحسب مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
وأكد ريك برينان، مدير قسم الطوارئ بمنظمة الصحة العالمية الذي زار إيران مؤخراً، في 17 مارس الجاري، أن العدد الإجمالي الفعلي لضحايا فيروس كورونا في إيران قد يكون أعلى بمعدل خمسة أضعاف الإحصاءات الرسمية.
معالجة فاشلة لأزمة كورونا
لا جدال في أن إيران، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 83 مليون نسمة، هي واحدة من بؤر الوباء، وهو ما يثير تساؤلاً حول السبب الذي جعل الأزمة تكتسب هذه الأبعاد الضخمة في إيران، والذي تتلخّص إجابته في المعالجة الفاشلة من جانب طهران لاحتواء الوباء، والتي بدأت تفاصيلها تظهر الآن فقط.
هناك مؤشرات متزايدة على أن الحكومة الإيرانية كانت على علم بتفشّي الوباء حتى عندما تجنّبت فعلَ أيّ شيء لوقفه، أو حتى إحاطة الجماهير بوجوده، وجمع تقدير الحكومة بين مزيج من الاستهتار والإيديولوجية الدينية.
استمرار رحلات الطيران مع بكين رغم تفشّي الفيروس بالصين
مع بدء انتشار فيروس كورونا رسمياً في الصين في يناير الماضي، وارتفاع حصيلة الوفيات، لم يتّخذ المسئولون الإيرانيون قراراً لوقف السفر بين البلدين، في محاولةٍ على ما يبدو للحفاظ على علاقاتٍ دبلوماسية قوية.
وفي مقابلة إعلامية في 4 فبراير الماضي، اشتكى بهرام بارسائي، وهو عضو بارز في البرلمان عن مقاطعة شيراز، من أنه على الرغم من قرار الحكومة في 31 يناير بتعليق جميع الرحلات الجوية الإيرانية المتّجهة إلى الصين، فإن بعض شركات الطيران الإيرانية لم تستمرّ فقط في العمل كالمعتاد، ولكن أيضاً ساعدت في نقل الركاب المتجهين إلى الصين من البلدان الأخرى.
وأضاف بارسائي أنه حتى تركيا ألغت جميع الرحلات الجوية مع الصين حرصاً على حياة مواطنيها، على الرغم من شدة اعتماد اقتصادها على السياحة، بما في ذلك السياح الصينيين.
ومع ذلك، استمرت شركة “ماهان إير” للطيران في رحلاتها بين طهران وبكين حتى أواخر 23 فبراير.
وفي 19 فبراير، أكدت الحكومة الإيرانية وفاة شخصين بكورونا في مدينة قُم، التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليون نسمة، ووجد خبراء الصحة العامة الدوليون أنه من الغريب أن أول اعتراف رسمي من إيران بتفشي الفيروس جاء في شكل إعلان عن وفيات وليس إصابات، والتي يجب أن تكون مرحلة سابقة بالضرورة، وهو ما يشير إلى أن الفيروس ربما يكون قد انتشر بالفعل على نطاق واسع في وقت الإعلان الرسمي، وأن المسئولين الإيرانيين ربما عرفوا ذلك.
سلامة المُرشد خامنئي مُقدّمة على مصلحة الشعب الإيراني
وما يُضفي مزيداً من المصداقية على تلك النظرية، أنه في 15 فبراير، أي قبل أربعة أيام من إعلان إيران رسمياً عن أول وجود لفيروس كورونا، عقد المرشد الأعلى علي خامنئي اجتماعاً اعتيادياً مع مجموعة من علماء الدين، ولكن على عكس السنوات الماضية لم يُسمَح لهم بالاقتراب من خامنئي وتقبيلِ يده.
وصرّح ناريمان باناهي، الذي حضر الاجتماع، في وقت لاحق، بأن عدم تقبيل الحضور ليد المرشد كان للحفاظ على سلامته، وأنها – أي سلامته – واجب عليهم.
وهكذا، بينما كانت الحكومة الإيرانية تهتمّ بحياة المرشد خامنئي، وتتخذ احتياطاتٍ إضافيةً لحمايته من فيروس كورونا في منتصف فبراير، تغاضت عن العناية بحياة 83 مليون إيراني، وأعطت الأولوية لشراكتها مع الصين على حساب الصحة العامة للشعب الإيراني.
وفي 24 فبراير، أفاد محمد حسين بحريني، رئيس جامعة مشهد للعلوم الطبية، في مقابلة مع وكالة أنباء الطلاب الإيرانية الحكومية، بوجود ما يقرب من 700 طالب صيني في حوزات قُم الدينية، ما مَهّد الطريقَ لنشر الفيروس في جميع أنحاء إيران، وتم حذف المقابلة بعد وقتٍ قصير من نشرها، وتَنصّلت منها وسائلُ الإعلام المرتبطة بالدولة في وقتٍ لاحق.
وفي نفس اليوم، استَشْهَد أحمد عمرابادي فرحاني عضوُ البرلمان، بتصريحاتِ بحريني، وقال إن الوفيات الأولى المرتبطة بكورونا في قُم وقعت في 13 فبراير، أي قبل 6 أيام من الإعلان الحكومي الرسمي.
الاحتفاظ بعلاقات متميّزة مع الصين
كان صراع طهران من أجل الحفاظ على علاقات جيدة مع بكين، على الرغم من التهديد الوشيك للفيروس، مدفوعاً جزئياً بحملة الضغوط الأمريكية القصوى، والتي بدأتها إدارة ترامب في عام 2018 بعد إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض عقوباتٍ شاملة ضد الاقتصاد الإيراني، والتي جعلت طهران تعتمد بشكل حاسم على الاستثمار والمساعدة الصينية.
وبالإضافة إلى مشتريات النفط الخام الإيراني، تقوم الصين ببناءِ مسارِ قطارٍ فائق السرعة بقيمة 2.7 مليار دولار، ومحطةٍ للطاقة الشمسية بالقرب من قُم، وذلك من بين مشاريع أخرى.
ومع ذلك، فإن إهمال إيران للتهديد الهائل الذي يُشكّله الفيروس على الصحة العامة، ينبع أيضاً من عدم إلمامها الجوهري بطبيعة هذا الخطر، فالفيروس ليس ثورةً محلية أو تدخلاً أجنبياً يهدف إلى تغيير النظام، ولكنه خطر زاحف غيرُ مرئي ضدّ المجتمع بأكمله، ويَتطلّب استجابةً تتمحور حول العِلْم.
وقد تجاهلت طهران إلى حَدّ كبير هذه الأساليب التجريبية الصارمة في صُنع السياسات، باستثناء حالات محدّدة مثل برامجها النووية، وبرامج الصواريخ في الآونة الأخيرة.
وقد تجلّى الفشلُ المنهجي في أخذ التهديد على محمل الجدّ، في ارتفاع عدد الوفيات نسبياً بين الشخصيات الحكومية المؤثّرة، بما في ذلك داخل قيادة الحرس الثوري، ومن بين الوفيات الجنرال ناصر شعباني، وهو قائد كبير بالحرس الثوري كان مسئولاً عن الأمن في العاصمة، كما أودى الفيروس بحياة محمد مير محمدي، عضوِ مجلس تشخيص مصلحة النظام.
اعتبارات سياسية ودينية تُعيق مكافحة كورونا
سبب آخر جعل إيران تتلكأ في التعامل مع فيروس كورونا، هو أنها لا تريد عرقلة ترتيبات الانتخابات البرلمانية في 21 فبراير، إذ كان لدى الحكومة بالفعل مخاوف من انخفاض نسبة الإقبال بسبب الاضطرابات السياسية في الأشهر السابقة، حيث القمع الوحشي للاحتجاجات التي شملت أنحاء البلاد ضد ارتفاع أسعار الوقود، والذي أقرته الحكومة في نوفمبر 2019، بالإضافة إلى إسقاط طائرة ركاب عن طريق “الخطأ” كان على متنها 176 شخصاً في يناير، وأدى ذلك أيضاً لالتزام الصمت حول انتشار كورونا بين القادة الإيرانيين، خشية أن يُشجّع على زيادة حركة الاحتجاجات.
وعندما اتخذت إيران أخيراً سلسلة إجراءات لاحتواء انتشار الفيروس، أعاقت السياسة الداخلية والإيديولوجية الدينية فاعليتها.
وقد أَسّست إدارة الرئيس الإيراني حسن روحاني مركزاً للوقاية ومكافحة فيروس “كورونا” في فبراير، عقب قرارٍ من المجلس الأعلى للأمن القومي حظي بتأييد خامنئي.
وعلى الرغم من جميع الجهود المبذولة للحدّ من تفشّي المرض، قاوم المركز تدابيرَ الحجر الصحي منذ البداية، وفي مؤتمر صحفي عُقد في 24 فبراير، عارض نائبُ وزير الصحة الإيراني، إيراج حريري، بشكل علني، نمط الحجر الصحي واسع النطاق الذي فرضته الصين، مشدداً على أن “الحَجْر الصحي يعود إلى الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بسبب أمراض مثل الطاعون والكوليرا، وحتى الصينيين غير راضين عن الحجر الصحي”.
ومن المفارقات أن حريري، كان يدلي بتصريحاته وهو يَتصبّب عرقاً بغزارة ويَسعل بشكل متكرر، وقد أثبتت الاختبارات لاحقاً أنه مصاب بكورونا.
من ناحيةٍ أخرى، أمر خامنئي الجيش الإيراني بالمشاركة في جهود الدولة لمكافحة الوباء، واقترح الجنرال محمد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة، مجموعةً من الإجراءات الوقائية في أول اجتماع عقده الجيش لبحث الأزمة في 13 مارس، وتضمّنت برنامج مراقبةٍ وطنياً لتحديد المصابين ومَن يُشتَبه في إصابتهم، وتزويد الجيش بألف عيادة مُتنقّلة وثابتة للفحص، وتنظيم حملة وطنية “لإزالة الزحام من المتاجر والشوارع والطرق”.
ومع ذلك، لم يَلْقَ الاقتراحُ آذاناً صاغية بين القادة العسكريين والمسئولين الآخرين، الذين تَجنّبوا الحجر الصحي والإغلاق خوفاً من التداعيات الاقتصادية.
إن الالتزامات الإيديولوجية والدينية بين بعض المسئولين الحكوميين وأطراف أخرى داخل المجتمع، تدخلت بوضوح في التعامل مع تلك الأزمة الصحية، خاصة ما يتصل منها بخطط إغلاق المواقع الدينية التي تجذب عادةً حشوداً كبيرة.
وفي 22 فبراير، أي بعد ثلاثة أيام من الإعلان الرسمي عن الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا في قُم، ألقى آية الله محمد صعيدي، خطبة الجمعة، معلناً معارضته إغلاقَ ضريح “فاطمة المعصومة”، واصفاً نية الإغلاق بأنها “مؤامرة”.
إيران تهدر الفرص.. وأسابيع صعبة بانتظارها
بشكل عام، أهدرت إيران فرصاً متعدّدة للتعامل مع أسوأ أزمة للصحة العامة في تاريخها، أولاً من خلال الفشل في معالجتها بشكل واضح عندما دخل الفيروس إلى أراضيها، وبعد ذلك من خلال تجاهل المقترحات المستندة إلى الخبرات لاحتواء انتشار الفيروس.
وكان آخر تصريح لخامنئي في رسالته للعام الفارسي الجديد في 22 مارس الجاري، أن “الفيروس ربما أنتجته الولايات المتحدة، وتم تصميمه خصيصاً للجينات الإيرانية” وهو تصريح لا يُبشّر بالخير بالنسبة لجهود إدارة الأزمة في إيران خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
للمزيد من التحليلات يمكنكم النقر على هذه الصورة