ترجمات

ماذا تحتاج أوروبا في ولاية ترامب الثانية؟

ما بين حروب تجارية وتباين في الرؤى تجاه طريقة تسوية الأزمة الأوكرانية وصدام حول حجم الإنفاق على الدفاع تحت مظلة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، تتصاعد التوترات في العلاقات الأوروبية الأمريكية، بينما لم يكمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شهرين من ولايته الرئاسية الثانية الممتدة لأربع سنوات.

وفي هذا الإطار، نشر المجلس الأطلنطي (مركز بحثي مقره واشنطن) مقالاً بعنوان “في أحلك ساعاتها منذ عقود، أوروبا تحتاج إلى تشرشل جديد”، لآنا بالاسيو وزيرة خارجية إسبانيا السابقة، والمحاضرة الزائرة في جامعة جورج تاون، تناولت فيه التحديات التي تواجه القارة الأوروبية في ظل ولاية ترامب الثانية، نستعرضه على النحو التالي:

  • حالة عدم يقين في أوروبا

اتسم مؤتمر ميونيخ للأمن -الفضاء الذي ظل قائمًا منذ فترة طويلة لصياغة القرارات الأمنية والدفاعية عبر الأطلسي منذ الحرب الباردة-، الذي عقد الشهر الماضي، بعدم اليقين. فأوروبا، المحاصرة في شكوكها الداخلية، تراقب العالم وهو يتفكك وسط تحديات زائدة؛ حيث الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط والضغوط من الصين وتآكل النظام العالمي.

ثمة سؤال أساسي يكمن وراء شبكة الحروب والأزمات التي تواجهها أوروبا حاليا: ما الذي تبقى من الغرب، وما الدور الذي تريد أوروبا أن تلعبه فيه؟

ففي نهاية الحرب الباردة، أصبحت فكرة “الغرب وبقية العالم” الإطار السائد لفهم الديناميكيات العالمية، لكن اليوم، تلاشت هذه الثنائية. وقد ساهمت قوى كثيرة في هذا التغيير، لكن شخصية واحدة وقفت في قلب هذا التقسيم وهي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فبعد أن لمّح فقط إلى مثل هذا التحول خلال فترته الرئاسية الأولى، اتخذ الآن خطوات نحو قطع العلاقات مع فكرة الغرب ككتلة جيوسياسية ذات مهمة مشتركة.

إن رؤية ترامب التبادلية للعلاقات الدولية تقلل من قيمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى مجرد مدير للمصالح الأمريكية والتوازنات المالية. فلم تعد الولايات المتحدة تريد أن تلعب دور الركيزة الطبيعية لهذا النظام الذي أنشأته، فقد أدارت ظهرها لفكرة كونها “الأمة التي لا غنى عنها”، كما وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت.

وبالنسبة لأوروبا، لم يعد السؤال هو كيفية التوافق مع استراتيجية واشنطن، بل كيف يمكنها فهم ما تبقى من الغرب، حيث أسسه المتمثلة في الحقوق والحريات، وسيادة القانون، والمؤسسات، والتعددية.

  • نظرة على التاريخ

تتردد حاليًا الإشارات إلى التاريخ باستمرار. على وجه الخصوص، هناك إشارات متكررة إلى الحرب العالمية الثانية، مع مقارنات بمؤتمر بوتسدام يوليو 1945 الذي كان لحظة حاسمة بلا شك، حيث لا تزال أصداؤه تتردد حتى اليوم.

في ذلك الوقت، كانت ألمانيا مهزومة والحرب في المحيط الهادئ لا تزال مستعرة، حيث وضعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الأساس لما أصبح الحرب الباردة، وبينما ركزت المناقشات الرسمية آنذاك على مصير ألمانيا وإعادة إعمار أوروبا، تم في الواقع ترسيخ تقسيم القارة.

كان إنشاء حلف وارسو تتويجًا لذلك التفاوض، حيث أسست موسكو وواشنطن توازنًا فعليًا دون مواجهة مباشرة. ثم صعدت أوروبا والولايات المتحدة لاحقًا وسلكتا مسارًا فريدًا من التنسيق والطموح المشترك جلب السلام والازدهار، لكن هذا المشروع يواجه اليوم ضغوطًا، وحتى التزام المجتمعات الأوروبية بهذه المبادئ الأساسية أصبح متذبذبًا. ومع ذلك، فإن الأسس لا تزال قائمة.

  • نموذج قيادة تشرشل

هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها أوروبا مرحلة حالكة. ففي أغسطس 1941، عبر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل المحيط الأطلسي في وقت كانت فيه الآفاق العسكرية قاتمة. كانت بريطانيا تقف وحيدة ضد ألمانيا النازية، التي كانت تسيطر على القارة. وقبل شهرين فقط من هذا التوقيت، غزت ألمانيا الاتحاد السوفييتي. وفي ذلك الوقت، كان الرأي العام الأمريكي غارقًا في واحدة من أكثر مراحل العزلة تطرفًا في تاريخه، ولم يرغب في التورط في الحرب.

ومع ذلك، قبالة ساحل نيوفاوندلاند، وعلى متن سفينتين بحريتين، وقع تشرشل والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ميثاق الأطلسي، مرسلين رسالة ثقة مدوية، وواضعين رؤية للعالم المستقبلي.

كانت جرأة تشرشل مدهشة حتى اليوم. فعلى الرغم من أن مصير أوروبا كان غير مؤكد، لكنه تمكن من النهوض والقيادة ووضع مسارًا، وأظهر استعدادًا لتقديم تضحيات مؤلمة حيثما لزم الأمر.

ولم يكن الأمر مجرد الفوز بالحرب، بل كان يتعلق أيضًا بتشكيل النظام الدولي الذي سيتبعها. وقد كانت بعض التنازلات التي قدمها باهظة الثمن، فقد أنهى ميثاق الأطلسي “التفضيل الإمبراطوري” البريطاني في التجارة، وأفسح المجال لرؤية السوق الحرة التي دعت لها واشنطن.

كما كرس مبدأ تقرير المصير، مما أدى فعليًا إلى إنهاء الإمبراطورية البريطانية، ووضع الأساس للتعددية في النظام الدولي، ولتولي الولايات المتحدة دور الضامن لنظام قائم على القواعد.

وبالمقارنة مع الوضع الحالي، تجد أوروبا نفسها مرة أخرى في لحظة حاسمة، ولكن على عكس ما حدث عام 1941، لا يوجد تشرشل الآن، فلا يوجد صوت قادر على صياغة مشروع واضح.

إن الاتحاد الأوروبي يتأرجح بين البيروقراطية والعجز السياسي. وقد اختبرته الحرب في أوكرانيا، وكانت النتيجة في أفضل الأحوال متذبذبة؛ وحدة في فرض العقوبات على روسيا، وكذلك في الدعم العسكري والسياسي لكييف، لكن رؤية المستقبل مفقودة.

  • أسئلة بلا إجابات

ما الدور الذي يجب أن تلعبه أوروبا في عالم تتراجع فيه الولايات المتحدة عن مفهوم الغرب التقليدي؟ كيف يمكنها تطوير استقلال استراتيجي حقيقي وتجنب الانزلاق إلى الهامش؟ وما الموقف الذي يجب أن تتبناه تجاه الصين؟ أسئلة كثيرة ومهمة لم يقدم مؤتمر ميونيخ للأمن أي إجابات لها، كانت الخطابات مليئة بالتحذيرات من التهديدات المقبلة، لكنها خلت من الحلول، واكتفت بالحديث عن مزيد من الدفاع والتكامل والاستقلال الاستراتيجي، لكن دون قناعة بأن هذه الكلمات تعكس مشروعًا ملموسًا.

وبالعودة للتاريخ، لم يكن لدى تشرشل أي يقين عندما عبر المحيط الأطلسي في عام 1941 متحديًا كل الصعاب، إذ كانت رحلته مليئة بالمخاطر ليس فقط السياسية، بل المادية أيضًا في ظل وجود غواصات ألمانية تجوب المحيط، لكنه كان يدرك أن التاريخ لا يُصنع على يد أولئك الذين ينتظرون الظروف المواتية، وأن القيادة تعني رفع الروح المعنوية برؤية واضحة وتوجيه ثابت.

وعلى هذا النحو يجب على أوروبا اليوم أن تستعيد تلك الجرأة، وألا تُعرف فقط بما تعارضه -الحرب الروسية في أوكرانيا، وعدم الاستقرار العالمي، وتهديد الاستبداد- بل بما تسعى إلى بنائه أيضًا.

وختامًا، يبقى التأكيد على أنه من دون توجيه واضح وصوت يصوغ الأهداف، ستظل أوروبا مجتمعًا مثقلًا بشيخوخة السكان، مضطربًا بسبب تحديات الهجرة، ويتمتع بمستويات استثنائية من الرفاه الاجتماعي، ومتقدمًا في البحث العلمي، وبطلًا لمشروع بناء داخلي كبير، لكنه منغلق على ذاته في عالم يعيد تشكيل نفسه من دونها.

زر الذهاب إلى الأعلى